والألفاظ - كما يظهر لي - لم توضع لنقل العواطف، وإنما وضعت لنقل المعاني، والألفاظ أعجز ما تكون عن نقل عاطفة الأديب إلى القارئ. فكيف أنقل إعجابي بالطبيعة أو أنقل حباً ملأ جوانحي، أو غضباً استفزّني، أو رحمة ملكت مشاعري؟ لم توضع الألفاظ لشيء من ذلك، إنما وضعت لنقل مقدمات ونتائج منطقية، ولكن ما حيلتنا وقد خلقنا عاجزين لم نمنح لغة العواطف، ولابد لنا من التعبير عنها ونقلها إلى قارئتا وسامعنا، لذلك استخدمنا لغة العقل مرغمين، وأردنا أن نكمل هذا العجز بضروب من الفن، كموسيقى الشعر من وزن وقافية، وكالسجع، وكل ضروب البديع، وليس القصد منها إلاّ أن تكمل نقص الألفاظ في أداء العواطف.
في هذا النوع من الأدب ليس من الضروري أن تكون معانيه جديدة، وربما يستطيع الأديب أن يجعل من المعنى المطروق قصيدة رائعة، أو قصة ممتعة، وكل ما فيها من جديد صياغتها الجديدة، وخيالها المبتكر، وليست وظيفة الأديب فيها أن يعلم الحقائق، إنما وظيفته أن يثير مشاعر الناس بها، ويعبر عمّا لا يحسنون التعبير عنه، وان كانت المعاني في نفوسهم، وبين سمعهم وبصرهم. كل إنسان يشعر بجمال الوردة، ولكن الأديب يملأ مشاعرك بجمالها، ويوحي إليك بمعان ترتبط بها، مثل اقتران تفتحها بتفتح الشباب ونشوة الأمل، أو ما تبعث من شجن. وجودة الأسلوب وحسن النظم قد يرقيان بالمعاني المألوفة فيخرجانها في شكل جذاب ولكن لا يمكن الأديب على كل حال أن يتبوأ مكاناً عالياً إذا أعتمد على الأسلوب وحده وكان مصاباً بالفقر العقلي.
في أدب كل أمة نرى أدب اللفظ وأدب المعنى، وفي الأدب العربي أمثلة واضحة لذلك، فمقامات الحريري والبديع أدب لفظ لا معنى، قلّ أن تعثر فيهما على معنى جديد، أو خيال رائع، وهما من الناحية القصصية في أدنى درجات الفن، ولكنهما تؤديان غرضا جليلا من الناحية اللفظية، ففيهما ثروة من الألفاظ والتعبيرات لا تقدر، ويظهر أن مؤلفيهما قصدا إلى تعليم اللغة وإمداد المتعلم بثروة كبيرة من الألفاظ والأمثال والتعبير، وتحايلا على ذلك بهذا الوضع الجذاب، فان كانا قد قصدا إلى ذلك فقد نجحا نجاحاً تاماً وان كان قصدهما غير ذلك فلا.
وشعراء القرون المظلمة بعد سقوط بغداد وكتابها أدباء ألفاظ: رواء في العين، ولا شيء في