اليدين، بل إن أدب كثير منهم لا هو أدب لفظ ولا هو أدب معنى، يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا، والمعري في لزومياته أديب معنى لا أديب لفظ، غزرت معانيه وقصرت ألفاظه، حاول أن يدخل المحسنات البديعية في شدة ففشل، قد التزم ما لايلزم فأضاع ما يلزم، والمتنبي - على الجملة - أديب لفظ ومعنى قد وقع من معاني الحياة على ما لم يقع عليه من قبله، ثم صاغه صياغة قوية حببته إلى النفس.
وبعد فيظهر لي أن الزمن سائر إلى تقويم المعاني أكثر من تقويم الألفاظ، وشأن الناس في تقويم الأدب شأنهم في تقويم الجمال في سائر الفنون، فمن لم يصلوا إلى درجة راقية من المدنية يعجبهم من الألوان اللون الزاهي كالأحمر القاني والأصفر الفاقع، ويعجبهم من الأجسام السمين القوي في ملامحه، ومن الأصوات الطبل والمزمار، فإذا بلغوا مبلغا كبيرا في الحضارة أعجبتهم الألوان المتناسقة والألوان الخفيفة، كما تعجبهم وحدة الفكرة التي تنسق الألوان المختلفة والمظاهر المتعددة، وأعجبهم من جمال الإنسان الرشاقة وخفة الروح، وأعجبوا بجمال الحركة، وقوّموا جمال المعاني أكثر مما يقومون جمال الملامح، ونظروا إلى جمال الروح أكثر مما ينظرون إلى جمال الجسم، حتى في جمال الجسم يقومون وحدة التناسق والنسبة بين الأعضاء أكثر مما يقومون جمال الوجه وحده، وفي الموسيقى تعجبهم النغمات الهادئة، والنغمات المتناسقة، والنغمات التي تمثل المعاني. كذلك شأنهم في الأدب يكرهون السجع الدائم، والكتابة التي اختفت معانيها أو ضاعت وراء الزينة المفرطة والزخرف الكثير، والقافية الطويلة على وتيرة واحدة، وتعجبهم البساطة في القول والزينة بقدر، والألفاظ كوسيلة لا غاية، يكرهون النكت كلها لعب بالألفاظ، والنكت تلذغلذغا صريحا، وتعجبهم النكتة أسست على معنى، والنكتة تلذع في إيماء ورقّه.
إن الأديب إذا رزق حظوة في السبك، وأصيب بفقر في المعنى كانت شهرته وقتية وقيمته محدودة الزمن، ولا يلبث الناس أن يدركوا ضعفه وفقره فينبذوه، والأديب الخالد من زاد في معارفنا ومشاعرنا بما في قوله من معنى وقوة.
أديب اللفظ فارغ الرأس قليل العلم بما حوله، قريب الغور، قد ستر كل هذا بزخرف القول كما تستر الشوهاء عيبها بالأصباغ، رخصت بضاعته فبالغ في التجمل في عرضها ولفت الأنظار إليها. وشعر إنها مزيفة فغضب لنقدها والتلويح بامتحانها. والأمة في طفولتها