للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلى أحضان الطبيعة الخادرة منحر الظهيرة. وحينئذ ترى أشتاتاً من خلق الله قد ضرب على آذانهم الكرى أو الكِظَّة أو السكر أو الفتور، فأصبح الناس والطير والشجر قطعاً من مادة الأرض لا يميز بعضها من بعض رقي النوع ولا سمو الفكر ولا غرور الفلسفة

لا أزال أشعر بحلاوة هذا الموسم في القرية. فقد كان الشباب والأيفاع يعتقدون أن في العشرة الأخيرة من شهر رمضان تُفتح في السماء (طاقة القدر) لمن كتب الله لهم السعادة، وأن في العشر الأولى من المحرم تطوف (بغلة العشر) في أعقاب الليل وهي موقرة بالذهب على من كتب الله لهم الغنى، وأن في يوم شم النسيم تهب نفحة من الفردوس لا يتنسمها إلا من كتب الله له القوة؛ فكانوا إذا تنفس صبح ذلك اليوم أفعموا خياشيمهم بريح البصل ليدرءوا عن أعصابهم خمود العام كله، ثم يخرجون إلى القنوات والنهيرات يستحمون في مائها الجاري، ويمشون هوناً على حفافي الحقول وضفاف الترع وحواشي البساتين يجمعون الفلية والحَبق والورد وزهر النارنج وورق الليمون، ثم ينسقون منها باقات يشدونها بأعواد السعد وسعف النخل، ويدسون فيها أنوفهم من لحظة إلى لحظة؛ ثم يقفون في مهب النسيم الفواح يعبُّونه عباً بالخياشيم والحلوق لعلهم يجدون فيه تلك النسمة الهاربة من ريح الجنة فيمسهم منها (عِرق الصبا)، ثم يسيرون صامتين مستغرقين نشاوي يتشممون ذلك السر الإلهي المكنون في أنفاس النهر، وفي عبير الزروع، وفي فوحة الرياحين، كما يتلمس الكيميائي الخبير إكسير الحياة في عصير العقاقير وحَلَب الأنابيق ومزيج الأشربة

فإذا أحسوا نشوة في الروح وفتوة في الجسم وقوة في الأعصاب لطول ما استنشقوا الهواء الخالص، واستيقنوا الأمل الخادع، تسلقوا أشجار التوت فجنوا منه أطيبه، وخضبوا أناملهم بجناه، ونقشوا طواقيهم بصبغة؛ ثم رجعوا إلى القرية يخطرون في مطارف الصبا الغريض، وكأن في نفوسهم بالياً قد تجدد، وفي نفوسهم ذاوياً قد انتعش. فيأكلون البيض الملون والخس الطري والسمك المملح، ثم ينامون وهم معتقدون أنهم ادخروا لبقية العام من القوة والصحة والفراهة ما لا يهن على طول العناء وسوء الغذاء ومس المرض

ذلك شم النسيم بخصيصته ودلالته، تراه في المدينة والقرية يوم الصفاء المشترك والأنس المشاع. ولقد كانت لي فيه ذكرى أو ذكريات لا تزال مشرق النور والسرور في نفسي. وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>