جارين على غير مقتضاها، أو على مقتضى شيء آخر، وكانت ميسرة كل التيسير، وكنا معسرين كل التعسير
وكانت تعلمها أثناء سرد الحوادث اليومية، وأخبار الجيران، والأهل والخلان، والمحادثات السارة والأخبار الممتعة، وتاريخ الناس وملحهم، وفي أثناء الأغاني والمدائح والمراثي. وكنا نعلمها في قواعد جافة خالية من كل ذلك، فكانت تعلمها مع المتعة والمسرة. وكنا نعلمها مع الضيق والحرج. ولما راعت ذلك كله كانت ناجحة في تعليمها كل النجاح، ولما أهملنا ذلك كله كنا مخفقين كل الإخفاق
أراني فيما سبق قد أطلت المسافة في الاستدلال، وذكرت في البين أن اللغة ملكة، وأن الملكة لا تكتسب إلا بالتكرار، وكنت أستطيع أن أختصر الطريق، وأقول لننظر إلى الفطرة كيف تعلم اللغة، ولنحاكها فيما تفعل، ولنعمل كما تعمل
وإذا نظرنا هذا النظر وجدناها تعلم أبناءنا اللغة العامية بالتكرار والمحادثة، وكذلك كانت تعلم أطفال العرب لغة آبائهم. كانوا يسمعون في طفولتهم من آبائهم ومخالطيهم مفردات اللغة وأساليبها، والبليغ المأثور من بيانها، ويتكرر ذلك على أسماعهم، فيحاكونه ويقلدونه ويتكلمون على نهجه، فيكتسبون الملكة في اللغة بالسماع والتكرار والحفظ؛ فإذا الطفل الناشئ ولسانه البادئ جار على هذه اللغة لا يخطئ ولا يشذ، ولو حاول جهده أن يحيد عن الصواب لاستعصى ذلك على لسانه، ولوجد في ذلك مشقة وعنتا
إن محاكاة الفطرة في أعمالها داعية إلى النجاح والتوفيق، وكلما كان المرء أقرب إليها كان أقرب إلى الصواب، وأبعد عن الخطأ، ويكون خطؤه بقدر بعده عنها، ومجافاته لقوانينها
ومن سوء حظ المتعلمين أن ما في المدارس المصرية مما له تعلق بالطريقة الطبيعية قد أهمل ولم يعن به، وهو فيها صورة لا معنى، وشكل لا حقيقة؛ ففي المدارس المصرية حفظ ومطالعة، ولكن التلاميذ يهملون ذلك الثمد القليل الذي فرضته عليهم المدارس المصرية من المحفوظات، ولا يحفظون إلا النزر القليل ليقولوه أمام لجنة الامتحان الشفوي. وفيها مطالعة، ولكن يمر العام كله وهم لم يطالعوا إلا صفحات معدودة، وفي الكتب المقررة شواهد على النحو والصرف والبلاغة، ولكن التلاميذ لا يحفظون شاهداً، ولا يستظهرون مثلاً