أمره. ولكمه مع ذلك كان يعيش أرغد العيش، لأنه كان يخلف ما يتلف. كان يكسب من الدروس الخصوصية لليهود أضعاف ما يأخذ على عمله اليومي في المدرسة. وكان من الجائز أن يقضي العمر في ظلال هذا العيش الغرير لولا أن وقع المحذور وتنبهت عيون الحوادث. تزوج المسكين!! وكانت زوجة لسوء حظه صورة مؤنثة منه. بل زادت عليه أنها من قوم فقراء يحبون الرفد والمعونة. وكانت كما شاء القضاء ولوداً، فلم يأت على زواجهما بضع سنين حتى كانا في بضعة أولاد. وتظاهر ضعف الزوجين وإسرافهما الشديد ونزاعهما المتصل على حياة هذه الأسرة البائسة فلم تنعم بهدوء ولم تظفر بتربية. وأصبح كدح الرجل قليلاً على تسعة أفواه لا تحسن غير الخضم والهضم؛ فكان يكد ويحتال ويتصرف ويقترض. ولكن الأمر كان فوق طاقته، ومن المحال أن بتعادل دخل المبذر وخرجه. والماء مهما زخر وارتفع لا يبقى إذا ما انتهى إلى بالوعة!
وتسابقت الأحداث إلى المسكين ففدحه الدين، وركبه الهم، وغاضت بشاشة وجهه، وذهبت أناقة هندامه. وقسا عليه الدهر ذات مساء فانتحر ابنه البكر تحت الترام وهو معه ينظر إلى أشلائه المبددة، ويستمع إلى أناته المرددة!
ثم جاءت هذه الحرب بما نعرف من بلاء وغلائها، وكانت عوارض الوهن والانحلال قد ظهرت على المعلم المكدود فاضطرب تفكيره وفتر نشاطه. وصعب على (الفرير) خدام الدين والعلم أن يمشوه عظماً كما نهشوه لحماً، فأخرجوه بعد أربع وثلاثين سنة قضاها معهم في جهاد العجمة واللكنة لا يدخر جهداً ولا يبالي مشقة. أخرجوه وكل ما في يده مائه وخمسون جنيهاً كافئوه بها على ما أفنى من صحته وشبابه. وكانت هذه المكافأة طعام أشهر معدودة كان في أصباحها وأمسائها يطرق الباب بعد الباب عسى أن يجد السبيل إلى رزقه الهارب، أو الوسيلة إلى عيشه المفقود. وتصام أكثر الأصدقاء فلم يستجيبوا لطرق الأنامل النحيلة على الأبواب الصقيلة. . . فباع الرجل فضول المتاع ثم باع حاجاته. وكادة الأسرة الشريدة تجوع وتعرى لولا أن قيض الله له صديقاً من ذوي الجاه والفضل فرشحه للتدريس في المدرسة الملكية بالمنصورة. ولهذه المدرسة شهرة بحب الجمع وكراهة القسمة، فرتبت له ثمانية جنيهات في الشهر. وحاول البائس المضطر أن يسد بهذا المرتب أجرة مسكنه ونفقة عياله، فاستحال ذلك عليه إلا أن يسكنوا نصف السكن، ويأكل بعض الأكل،