ويخلصوا من عقابيل السرف القديم. فكان يقترض من المدرسة سبعة جنيهات في كل شهر على حساب الشهر المقبلة، حتى جاء شهر مارس الماضي وليس له مرتب العام كله غير خمسة جنيهات! نعم خمسة جنيهات هي كل ما تبقى لسبعة الأشهر الباقية! إذن ماذا يصنع؟ لم يبق في المنزل ما يباع، ولا في الناس من يعين، ولا في الغد ما يرجى!
وهاهو ذا بعد أن نيف على الخمسين في خدمة اللغة والأدب يجد نفسه على شفا الهاوية ممنوع الرزق مقطوع الرجاء لا منصب يظل ولا ثروة تغل ولا ولد يعول ولا عشيرة تؤوي ولا أمة تساعد!
وفي هوادي ليلة سواء من ليالي مارس انفرد به الهم الملازم في ركن منعزل من البيت النائم، وكان مستقبله القريب الداهم قد تمثل في ذهنه وبرز في عينيه حجاباً من الظلام الكثيف يتدّجى بالمخاوف واليأس، فلم يستطيع أن يتبين من خلاله غير صحيفة من البترول صبها عليه، وغير ثقاب من الكبريت أشعله فيه! فلما شاعت النار في جسده خرج يعدو إلى الشارع وهو يستغيث بأبنائه واحداً بعد واحد فما أصاخت أذن ولا تنبهت عين. وسقط المسكين صريعاً أمام كنيسة المارون في الحسينية، وكان الصراخ الهالع قد أيقظ قسيسها فخرج يستطلع الخبر وانحنى القسيس على المحترق يتأمله، ورفع نظره إلى المنحنى يتبينه، فإذا كلاهما يعرف الآخر، وإذا القسيس تلميذ من تلاميذ الأستاذ القدماء!
- ماذا صنعت بنفسك يا شيخ عثمان؟
- تلك مشيئة الله!
ونقلت المحتضر عربة الإسعاف إلى المستشفى ليلفظ آخر أنفاسه حين تنفس صباح الجمعة. وأبطأت إجراءات النيابة والصحة حتى دخلت ليلة السبت. ولم يكن حاضر أمره غير ناظر المدرسة ووكيله. فاقترح الوكيل أن يبقى في المستشفى إلى الصباح ليشيعه زملاؤه وتلاميذه؛ وصمم الناظر أن يقبر في الليل، لأن النهار يقتضي قماشاً وفراشاً وقهوة!!
وشيعت في ظلام الليل وسكون الناس جنازة جندي باسل من جنود الأدب المجاهدين، وليس أمامه إلا الناظر والوكيل، وليس وراءه إلا أولاده وزوجته!