حضارة غريبة عنه، لا يطيقها إلا على نكد ولا يحتملها إلا عنتاً وإرهاقاً وغروراً
إن رؤوساً من الناس في هذا الشرق قد طالت بهم أيامهم حين أقبلت عليهم الدنيا، فأخذوا على الرأي العام منافذه كلها، وصرفوه ما شاءوا بما شاءوا كما شاءوا، لم يغلب عليهم إلا ذلك الداء الوبيل الذي قبسوه من مدنية الغرب، داء المنفعة. طلبوا المنافع لأنفسهم، فاستبدوا في غير ورع، وتجبروا في غير تقوى، وعملوا على أن يكون سلطانهم في الأرض كسلطان الله في السماء: يمحو ما يشاء ويثبت، علوّاً في الأرض واستكباراً، قاتلهم الله أنى يؤفكون؟
إن الشرق لا يؤتي ولا يغلب إلا من قبل أهله. هذه هي القاعدة الأولى في السياسة الاستعمارية الماضية، فعملت هذه السياسة على أن تنشر في الشرق عقولاً قد انسلخت من شرقيتها وانقلبت خلقاً آخر، وقلوباً انبتت من علائقها ولصقت بعلائق أخر، وبهذه العقول المرتدة والقلوب المرتكسة استطاع الاستعمار أن يمد للشرق طريقاً محفوفاً بالكذب والضلال والفسوق، يختدعه عن الصراط السوي الذي يفضي به إلى ينبوع القوة الذي يتطهر به من شرور الماضي وأباطيل الحاضر، فيمتلك من سلطان روحه ما يستطيع به أن يهدم الأسداد التي ضربت عليه، ويجتاز الخنادق التي خسفت حوله
لقد لقينا بهؤلاء العنت حين استحكم لهم أمر الناس فتسلطوا عليهم بالرأي وأسبابه، فخلعوا بسوء آرائهم على الشرق ليلاً من الاختلاف لا يبصر فيه ذو عينين إلا سواداً يختفي إذ يستبين. وكانوا له قادة فاعتسفوا به كل مضلة مهلكة تسل من قلب المؤمن إيمانه، وتزيد ذا الريبة موجاً على موجه. فما كتب الله أن يدفع مكر هؤلاء بقوم جِردوا أنفسهم للحق، رأوا أن يلبسوا للناس لباساً من النفاق يترقون به إلى التلبيس عليهم بما حذقوا من المداورة، وما دربوا عليه من فتن الرأي، وما أحسنوا من حيلة المحتال بالقول الذي يفضي من لينه إلى قرارة القلوب، حتى إذا استوى فيها لفها لف الإعصار، واحتوشها من أرجائها، ثم انتفض فيها انتفاض الضرمة على هبة الريح في هشيم يابس.
وقد أقبلت اليوم على الشرق أيام تتظاهر فيها الأقدار على أن تسلم إليه قيادة مدنيته الجديدة بعد طول الابتلاء وجفاء الحرمان، وجاءت مع هذه الأيام فتنٌ يُخشى أن تضرب أولّه بآخره حتى لا يقومُ شيءٌ هو قائمٌ، ولا يبقى من أعلام الماضي إلا آثار التاريخ التي تقف