أحداث الدهر لم تبق منها إلا على شبح نسيه الموت أو تناساه، تمشي بهراوتها الغليظة مشية وئيدة مستقيمة، وعلى بدنها صدار أسود ممزق الإهاب، يدل على إنه علامة فاجعة قديمة العهد؛ لكنها حية كأنها بنت ساعتها. وقفت في ناحية لا يصل إليها تيار الزاحفين؛ وحولها أربعة فتية ما أنضر الشباب الذي تفيض به أعينهم، وما أسمى العزيمة التي تتلألأ على وجوههم! تلمست العجوز هؤلاء الفتية بيديها، وتلمست محاسنهم وأكبت على رؤوسهم ووجوههم تشم ريحهم، وما أن انتهت من ذلك حتى بادرتهم بوصيتها:
(أي بَنِيّ! إنكم أسلمتم طائعين وهاجرتم مختارين. والله الذي لا إله إلا هو، إنكم لبنو رجل واحد كما أنكم بنو امرأة واحدة، ما خنت أباكم ولا فضحت خالكم، لا هجنت حسبكم، ولا غيرت نسبكم. واعلموا أن الدار الآخرة خير من الدار الفانية. اصبروا وصابروا ورابطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، فإذا رأيتم الحرب قد شمرت عن ساقها فيمموا وطيسها وجالدوا رئيسها، تظفروا بالغنم والكرامة في دار الخلد والقيامة
أي بَنِيَّ! اطلبوا الموت توهب لكم الحياة)
كانت تسيل هذه الكلمات العاصفة من فمها دون ما تلجلج ولا اضطراب، لم ينل منها موقف التوديع شيئا، وكان أولادها يسمعون خطابها، وكأن نفوسهم ارتابت في شك أمهم منهم، وهم الذين أقدموا إلى الجهاد مختارين بعد أن باعوا أرواحهم واستقلوا ذلك في جنب الله
قبلوا يد أمهم، وودعوها توديع مفارق لن يوؤب، وزحفوا على جيادهم وهي لا تزال تتجه بمسامعها نحو وقع الحوافر حتى تلاشى وقعه، وقرت كل حركة حولها. فعادت إلى خيمتها، وكأنما ضاقت بها نفسها فهي لا تستطيع القعود إلا قليلا فنهضت تتلمس الأرض بعصاها، ولكن أين تريد أن تدب؟ في نفسها خواطر كثيرة، منها ما يتعلق بالمعركة ونهايتها، ومنها ما يخص أبناءها وحدهم. أتلقاهم كدأبها في المساء؟ أم تلقى بعضهم، والآخر أكلته شفرات السيوف! خواطر كثيرة تحاول أن تطغى على طمأنينتها وإيمانها، ولكنها لا تريد الآن أن تعرف شيئا عن رجوعهم وعن مصارعهم، وإنما تريد أن تعرف كيف استقبلوا الموت، بنحورهم أم بظهورهم! ولكن فيم تشك في أشبالها، وما علمتهم يوماً إلا أهل مروءة ونجدة!
قضت يومها تغالب هذه الخواطر، وما أن دنا الأصيل حتى هتفت أصوات البشرى في القوم بهزيمة الفرس. فخرجت النساء يستقبلن البعولة والاخوة والأبناء. ومن مثل الخنساء