تنشط إلى تنسم الأخبار وهي متوكئة حانية على عصاها ترتفع الأصوات من فوقها ومن تحتها، وعن يمينها وشمالها، والظافرون عائدون بالأردية الحمراء، والسيوف المضرجة بالدماء، قد أذهلهم النصر عن النصب، يحيي بعضهم بعضاً وما تحيتهم إلا مصافحة بالسيف أو السنان!
تعلو الضجة آناً وآناً تخفت، وإنها لتدل على أن أكثر المقاتلة أووا إلى بيوتهم إلا مصاباً يتحامل على نفسه، أو فارساً يتضالع به فرسه بعد أن أبلى، ولكن ما لأولاد الخنساء لم يطل أحد منهم على هذه العجوز المرتقبة التي أخذت ترتجف من الريح الباردة! ومن ذا ينبئها بمصيرهم بعد أن أبطئوا عليها
ولكنها اعتقدت أن واحدا منهم أدركه مصرعه، وأن اخوته قعدوا يبحثون عنه بين القتلى لأنهم يؤثرون أن يدفنوه بأيديهم!
هاهي ذي تنتظر! يمر بها أحد رجال القادسية ممن شهدوا مصرع أولاد الخنساء، يراها شاخصة في الناحية التي أطل منها وقد رفعت رأسها تهم بتكليمه لولا أنها خفضت رأسها لأنها تريد أن تكون كلمتها الأولى لأحد أولادها
شاهدها الرجل وغلبت على عينيه دمعتان محرقتان أسقطهما الحزن على هذه العجوز التي نالت منها القادسية أعظم تضحية. حتى لتحسب فيها رمزاً للأمومة التي ضحت بأبنائها في هذه الوقعة. . . آثر أن يمشي وهو يخطو الخطوة ويلتفت إلى خلفه، كأن شيئا - لا يستطيع أن يدركه - يبعث الروع في نفسه. حاول أن يخبرها أكثر من مرة، وتردد أكثر من مرة، وأقل ما يحمله على التردد أنه لا يريد أن يكون ناعيا لأربعة أولاد في يوم واحد، ولكن ماله يكتم عنها ما كان، وماله لا يشفق على هذه العجوز التي تنتظر، والتي لا تزال تنتظر حتى مطلع الفجر! فلينبئها بمصيرهم، وليعزها بكلمة قد تقع موقعا حسنا أو لا تقع، وليصنع الله بها بعد ذلك ما يشاء! وإن أعظم ما ينتظره لها الموت، وما يدريه أنها هي التي تفتش عن الموت بعد مصرع بنيها. فعاود إليها مرة ثانية؛ وسمعت الخنساء وقع الخطا من ورائها فهمت بالاستغراب، ولكنها شعرت أن هذه الخطا تسر أمراً لها وحدها، فناداها:
- يا خالتاه! لا أخالك تألمين إذا أنبأتك أن أولادك الأربعة يسرحون هذا المساء مع شباب.