ولكن أبا الطيب كان قد اختار طريقا آخر؛ فبدلا من أن يرحل إلى الدلتا نجد أنه قد أخفى السلاح وروايا الماء في الرمال وركب أسرع الهجن البيجاوية وهبط من الفسطاط جنوبا إلى خليج السويس ثم اتجه من هناك إلى الجنوب مبتعدا عن طريق الحاج، فوجد أمامه واديا يسميه المعاصرون (وادي سدر) واسمه الصحيح (وادي الصدر) فإذا قطعه اتخذ سبيله إلى قلعة (نخل) القائمة للآن في شبه جزيرة سينا، قطع هذا على ظهور الهجن في مرحلة واحدة لا تتعدى يومين
فبينما كافور يستعد للاحتفال بعيد الأضحى إذا به يفاجأ بهرب المتنبي فيقيم الدنيا ويقعدها ويسأل الدلاة وقاصي الأثر، فلا جواب لديهم. .
وكان كافور يحكم مصر ويحكم الجزء الجنوبي من بلاد الشام ويسيطر على طرق المواصلات في سيناء، وله الحراس في كل مكان والعيون تنقل إليه أخبار الناس، فكيف فر أبو الطيب من قبضته؟ إن هذه الرحلة جديرة بالبحث وقد حاولت منذ سنتين أن أعرف مكان (نجع الطير) وهو نصف المرحلة الأولى من رحلته. ورجعت إلى كافة المراجع التي بين أيدينا فلم أوفق
وتتبعت هجرة بني إسرائيل من مصر لعلي أجد فيها ما يقنعني بتحقيق بعض الأسماء الواردة بين مصر وبلدة نخل في وسط سيناء، ومع صبري وتحملي الطويل لم يسعفني كل ذلك لنتيجة حاسمة ترضي رغبتي
ويصف أبو الطيب هذه الفترة من حياته بقوله عن الهجن البيجاوية:
ضربت بها التيه ضرب القمار ... إما لهذا وإما لذا
فمرت بنخل وفي ركبها ... عن العالمين وعنه غنى
ولهذه القصيدة - كما قلت - رنين موسيقي واعتداد بالنفس وسرور بالتغلب على مصاعب الأرض ومتاعب الطبيعة لا يمكن أن ينسى
أرددها ثم أنظر توارد الخواطر بين أبي الطيب ويوليوس قيصر في الشطر الأول: فهو يشبه أقدامه في قطع الفيافي في هذه السرعة في قوله:
ضربت بها التيه ضرب القمار: والتيه هو أرض سيناء والقمار هو مجازفة أمام الحياة