ومهما يكن من شئ فإني شعرت بأني حيال متحمس من متحمسينا الأشداء. . .
وجاء محصل الأجرة وهو كهل مخيف يردد لفظيه المعتادين: ورق. . . تذاكر؛ ويزيد عليهما بين حين وحين قوله: فلوس، وينقر بقلمه على ظهور المقاعد أو على ظهر الخشبة التي تحمل تذاكره. . .
ومشى نحو صاحبنا، فلما بلغه كان قد بلغ في نداه قوله: فلوس. وناوله الفتى بطاقة يقرض منها بمقصه خانة فيساوي ذلك قرشاً ونصف قرش، ولم يكن في البطاقة إلا الخانة الأخيرة فقال محصل الأجرة لصاحبنا (ادفع الباقي) فلم يرد الفتى وعاد إلى صحيفته ينظر فيها كأن لم يحدث شئ.
ونفخ المحصل في زمارته فوقف (المترو)، واشتد الغيظ بالركاب جميعاً، وصارت القضية على تفاهتها من قضايا الرأي العام، ولكن في مجالها الضيق هذا. . . وأصر صاحبنا إصراراً شديداً وثبت ثباتاً عجيباً لا يكترث لشيء!. . .
وخطر لأحد الركاب حل سلمي فتقدم بالباقي إلى المحصل؛ وهنا وثب الفتى من مقعده ينتهر هذا المعتدي على كرامته ويطلب إليه أن يضع نقوده في جيبه. ونطق فإذا هو فخم اللفظ ينطق الزاي ظاء والتاء طاء والدال ضاداً، وكان كلما انطلق منه لفظ تراجع المسكين الذي تقدم بالنقود خطوة وقد رد نقوده لتوه إلى جيبه وأخرج يده يقلبها في الهواء بيضاء من فرط خوفه، أما المحصل فقد رضي من الغنيمة بالإياب؛ ونظرت ونظر الركاب فإذا ثلاثة أرباعه في الدرجة الثانية وما بقي منه في الدرجة الأولى، ولعله كان يتأهب ليغلق من دونه الباب. . .
وذكرتني ثورة هذا المتحمس بما كنت أقراه عن (الدوتشى) إذ كان يرعد في وجه موظفيه. . . وجلي هذا (الدوتشي) المصري لا يكترث لشيء ولا يجرؤ أحد أن يكلمه كلمة. . . وكم بيننا من أمثال هذا البطل ممن لا يحسبون لأحد حساباً مهما بلغت شناعة ما يصنعون. . .
وكنت اكتم ضحكي تلقاءه، وأخشى أن يغلبني، فأتأهب لألحق بالمحصل وأوصد من خلفي الباب؛ ثم اشغل نفسي بالتفكير في أمره، فأقول لو أن لهذا (الدوتشى) ولأمثاله من المتحمسين الأشداء مثل هذا الثبات في الجد من الأمور، أو مثل هذا الرفض والأباء إذا دعاهم رؤساؤهم إلى غير ما يحبون، لأخرجت أمتنا من الأبطال ما لم تخرج أمة مثله في