يسيراً مضطرباً متثاقلاً يتلفف في معطف بال مهلهل. . . كان بين الخطوة والخطوة يتأنى ويتمهل كأنه يستوضح الطريق أو يدبر المصير
وحين تبينته ظنته طلبتها التي إليها تهفو فرصدت سبيله، وطفقت تهمس له في صوت داعر مرتعش لفته حين ملأ سمعه. . . فاستدار لها وقصدها متوجساً منها مسرعة إليه!!
. . . لم يكن مخموراً كما حسبت، ولا كانت خاطئة كما ظن. . . إنما كان جائعاً شريداً. . . مهزولاً، ذرع المدينة الغارقة في الثلج يومين كاملين حتى عصبه الجوع وأزحفه السير والسرى
قالت له في حنو وإشفاق، وهي تسنده في لفة ذراعها وتقبله في نهزة الظلمة والسبيل خالية:
- مسكين. . . مسكين! لا تحزن. . . تعال معي فهي حجرة على أي حال وفيها دفء وقرار. . .
. . . ووصلاً معاً. . . وحين دلفا إلى الحجرة، واستشعر دفئها صاح في جذل وسرور وهو يلقي بنفسه إلى الأرض إلقاءً:
- ما أهنأني بهذا المكان. . . إنه ولا شك أفضل من الشوارع. نعم إنه أفضل من الشوارع لقد أمضيت دهراً في الشوارع وفتحت (فاني) خزانتها وَعَيْثت فيها، وكانت تحوي كل ما تملك من ملابس وطعام وشراب! إن كانت الكسر التوافه التي ضربت فيها العفونة تسمى طعاماً. . . أو إن كان القليل من النبيذ الرخيص يصلح أن يكون شراباً. . .
قدمت له كل ما عندها، بعد أن عجفت نفسها عنه، فشبع وروى جهد ما وسعها أن تشبعه وترويه. . . وحين أهجأه الطعام شرع يقص عليها قصصه وقد طامنت جوعها واطمأنا معاً. . . قال: (قضى جدي منذ زمن قصير ولم يكن لي سواء وكان مصوراً مغموراً. . . وقبيل موته أوصى بي أحد معارفه هنا، وحملني إليه رسالة مكتوبة ناشده فيها أن يعني بأمري، ويعلمني حرفة التصوير وكنت احمل - حين قدمت باريس - نيِّفاً وثلاثين فرنكاً كانت كل ما أملك من متاع الدنيا. . .
(طفقت أبحث عن الرجل فما وقعت له على أثر. إذ كان نقل مسكنه إلى حيث لا يدري أحد من جيرته فلبثت ستة أشهر أنفق مما معي إنفاق الحريص الشحيح حتى نفذت ثروتي عن