آخرها منذ سبع ليال! فهمت على وجهي متسولاً في الطرقات، وفي تلك الأيام التي يجمد فيها الدم وتجنُّ فيها الريح. . . آه يا سيدتي. . . عندما لقيتك لم أكن قد طمعت شيئاً منذ ثمان وأربعين ساعة!)
وكان التعب والدفء قد فعلا فيه فعلهما فلم يقوَ أن ينهض ليخلع عنه أخلاقه. فنهضت تساعده وتنضوها عنه في رقة وحرص. . . ثم احتوته في صدرها في عطف وحنو، وأخذت تقبله وتدلِّله وقد شاعت فيها الرحمة وأنساها بؤسه بؤسها. ثم تم تركه لتخلع ملابسها هي أيضاً. . . ثم صعدا إلى فراشها وكنَّتْه في حضنها كطفل عليل، وناما - ملء عيونهما - إلى ضحوة النهار
. . . . . . واستدانت ثمن غذاء رخيص في مطعم حقير، وحين جاء الليل تأذَّنَتْهُ أن تغيب عنه بعض الوقت. . . وحين عادت أفرغت بين يديه أثني عشر فرنكاً قائلة إنها كسبتها وإنها أحسن حظاً من الليالي السالفات، وإنها تدين له بهذا الحظ الوفير، ثم قبلته وتركته كَرَّة أخرى إذ كانا - لا يزالان - أول الليل. . . . . . وأوغل الليل. . . ثم انتصف. . . ثم تهوَّر ولم تعد (فاني) فقلق عليها. ولكن لم تداخلْه في خِفْيتها ريبة. . . وأسفر الصبح ولم تعد أيضاً. . . ولما علا النهار غادر الحجرة. إذ كان عليه أن يعول نفسه ويعودَ ثانياً فيطرق شوارع باريس العديمة القلب، وإن كانت ستغنيه تلك الفرنكات القليلة التي تركتها له - تلك التي لم يعرف اسمها - عن التشرد بضعة أيام!
أما هي فكان من تَعَسِها أن احتجزها رجل الشرطة، لأنها كانت تسير عبْر شارع محظور على مثلها أن تسلكه أو تظهر فيه. . . ومن ثَمَّ أعدوا لها - جزاءَ ما اجترأت - مكاناً في سجن البغايا في (سانت لازار)
ودارت عجلة الزمان خمس عشرة دورة، تحولت الحال فيها غير الحال، وتبدَّل فيها كل شئ. . . ذاقت خلالها (فاني) من صابِ الحياة وحلوها ويسرها وعسرها ما تذوقه كل طريدة مثلها. . . وهبت نفسها للائم والخطيئة. . . فعلا التيار بها وهبط ومد جزر. حتى استقر المطاف بها أخيراً فإذا هي - بعد جهد السنين - غانية باريس الأولى وزهرة مجتمعاتها وحفلاتها وكوكبها الذي إذا ظهر أخذ وبهر، وإذا غاب شغل وأسر. . .!
كذلك، وفي وثبة واحدة بلغتِ (فاني) الأوج وارتفعت إلى ذروة مالاً وجمالاً وشهرة وبُعدَ