صيت. وأثرتُ تلك الفتاة المعدمة الشريدة التي آوتها الطرق ليالي وأياماً وربَّتها الحادثات، والتي عانت الجوع والعرى ألواناً وأعواماً؛ وتدفق في يديها الذهب، وأقبلت عليها الدنيا، حتى سار المثل بغناها وبذخها واندفعت في نزق وجنون تنتقم من يومها لأمسها، فأسرفت في اقتناء الجياد والمركبات واستعمال الخدم والنُّدُلِ، وجُنَّت بالترف البالغ والسرف الطائش حتى طاولت بقصورها قصور السادة والأمراء، وطار ذكرها فعبر فرنسا كلها وجاوزها، فتهاوت تحت قديمها أفئدة الرجال، واحتولها السادة، وتحلَّقها الخاصة، واحترق في وَهَجِهَا الشباب النُّضرُ من كل صَوْب وفج، وذابت في لَذْعةِ السحر من عينيها الأخاذين الأموال الكريمة. والضياع الوَساعِ، واختفت في أبهاء قصورها وبُهْرَات ملاعبها ومغانيها ثروات السفهاء البُله من سادة الحكم ووزراء الحاكم وأمراء المال من كل بلد وقطر!
وظَلَّت (فاني) فترة من الزمن ملكة الجمال الفاتن والبذخ العريض، ليس في باريس وحدها ولكن في دائرة مركزها باريس ومحيطها عَبْر المحيط. . . تمسكُ أفئدة الخاصة - بل خاصة الخاصة - بخيوط جُمْعُها في يدها. فتؤوِي من تشاء وترْجي من تشاء، وتَتَحظى من تريد وقت ما تريد. وبلغ بها هَوسها أن تألهتْ فقسمت الحظوظ بين عُبَّادها وفَرَقَتْهُمْ، فمنهم شقي وسعيد!
. . . وأَوفت الفتنة في هذه (المخلوقة) وبها على الغاية حتى ذل فيها الأعِزة الشمُّ من الحافين حَولها، وحتى هلك في سبيلها من حقَّت عليه كلمتها. فقضى من أجلها من قضى، وجُنَّ فيها من جُن. . .
. . . وكأنما بَرِمتْ باريس بهذه الداهية الوافدة التي شغلتها برهة من الزمن فعالجها القدر وهي في عقدة عِزَّها، إذ توالت عليها المصائب ودهمتها الحوادث بغتة ومن غير تمهل، فأخذت تنحدر سريعاً كما ارتفعت سريعاً. . . وفعلت تلك الحياة العابثة الصاخبة فِعلها في أعصابها وكيانها. . . فأصابتها لَوثةٌ جعلت تخبط فيها على غير هدى. . . ثم ركبتها الديون. . . فاضطربت رأساً لقدم، وأخذتها العزة فلم تَقْوَ أن ترى الدائنين يجترئون عليها فيقتحمون مقاصيرها. ومخادعيها - على عينيها - ليستوفوا أموالهم بعدل ما تحوى من كنوز ثمينة وطرائف عجيبة ونفائس غالية!!. . .
وأسلمها الخبل إلى الجنون، وتضاءلت شهرتها وانفضت من حولها حاشيتها. وتقلص ظلها