لنا تدليلاً على هذه الحقيقة. أما نحن فنستطيع أن نجد كثيراً من البراهين، على ما نذهب إليه، من آراء الفلاسفة واعتقاداتهم في الله منذ أقدم العصور حتى يومنا هذا. فإذا ما أخذنا إله أرسطو على سبيل المثال وجدنا أنفسنا بازاء كائن أبدي يوصف بأنه جوهر وأنه فعل محض وأنه يحرك ولا يتحرك. وهذه الصفات هي الوجه الآخر لما نلاحظه في حياتنا الأرضية من سمات الأشياء وخصائصها. فأبدية الله إنما تنشأ عن رغبتنا نحن البشر في تصور موضوع، ونتيجة لأطماعنا التي لا حد لها في معاش يستمر إلى ما لا نهاية. إذ أننا نحس في قرارة أنفسنا بأننا عاجزون أمام مظاهر الطبيعة وعوامل الفناء التي تعمل بكل قوتها على إنهاء الحياة المتمثلة في الأفراد، وعلى إبطال ما يبدو أننا نستمتع به من مناعم الوجود ولابد والأمر كذلك من تصور موضوعية أخرى غير إنسانية توصف بهذا الوصف الذي حرمتنا إياه الحياة وتتعلق بها تلك الكيفيات التي نحلم بتطبيقها على شئوننا الخاصة. فالوجود الأبدي الخالد هو الوجه الآخر لهذه الحياة التي نستشعر بأنها قد وُجدَت منذ زمن قريب ولا نعرف مبدأها على وجه ثابت، وهو الوضع المقابل لهذه المظاهر المتغيرة والأعراض الزائلة والحركة الدائمة.
ولا نستطيع أن نفسر صفات الله عند أرسطو إلا على ضوء هذه الحقيقة التي نعلنها إعلاناً صريحاً ونؤكدها توكيداً قاطعاً هنا فإلهه كما نعلم عبارة عن فكر خالص يتأمل ذاته ولا يمكن أن يكون هناك شيء آخر سوى ذاته كموضوع لتأمله ما دام شرف التفكير متوقفاً على شرف المادة، وما دام من الصعب أن نُقر برفعة العمليات العقلية من غير الوثوق برفعة الأشياء التي تكون محل اهتمامه. بل إن لذته القصوى إنما تكمن في هذه الحالة التي يستطيع بها أن يدور حول نفسه وأن يكون هو ذاته لذاته موضوعاً لا يفرغ من تأمله ولايني عن التفكير فيه. وهو لهذا السبب مشغول عن الحياة، لاه عما يجري فوق الأرض، مهمل لأحداث الكون. فهذا الإله، إن يصح أنه إله، وليد اختراعٍ عبقري ولا يمكن أن يصدر عن تصور آخر غير تصور الإنسان الذي يكلف بالبحث ويولع بالنظر العقلي الخالص. لقد كانت الحياة بمتاعبها ومضايقاتها تثير جانب الخيال قبل كل شيء في عقل أرسطو وتدفعه دفعاً إلى افتراض وجود كائن يخلو من هذه الشواغل الوقتية وينصرف عن الحياة العادية إلى العمل الفكري المجرد. أو يمكن أن نقول إن الحياة الفكرية بما كان لها