من مقام في نفس الشعب اليوناني القديم استطاعت أن تدفع بأرسطو دفعاً إلى مذهبه الغريب وتصوره الشاذ. ومن ناحية ثالثة نلاحظ أنه من السهل جداً تصور إله على هذا النحو إذ تكرر وقوعنا في الأزمات وتعددت في سبيلنا العقبات دون أن ينقذنا منقذ وبغير أن يعيننا معين، مهما رجوناه والتجأنا إليه ودعوناه مخلصين. فالإنسان يتصور الإله محباً للخير عادة ويفترض أنه يعمل جاهداً في سبيل السعادة والهناء. ولا شيء غير ذلك. فإذا حصل أن أتجه الإنسان اتجاهاً سليماً، وأن سعى مسعى كريماً ثم ناله من وراء ذلك سوء وأصابه من جرَّائه نكر ارتد إلى رشده وعاود تفكيره وجعل ينظر مرة أخرى في شأن الإله العلي القدير. وهو في تلك الحالة إما أن ينكر وجود الإله، وإما أن يؤمن بأنه موجود ولكن لا تربطه صلة بالعالم الأرضي ولا يشغل باله من أمره شيء ولا يحتل في ذهنه أية مكانة. وهذا الموقف الأخير هو الذي ركن إليه أرسطو كما شاهدناه في كلامه عن صفات الإله.
ولو قمنا باستعراض هذه الفكرة فكرة الإله لدى الفلاسفة جميعاً لانتهينا إلى النتيجة التي أعلناها من قبل والتي قلنا فيها إن الإنسان قد عكس خيالاته وأسقط أحلامه وأمانيه على النحو الذي اعتقدناه حسب ميولنا الفلسفية واتجاهاتنا الدينية. والإنسان معذور بطبيعة الحال عندما يفعل ذلك ويقدم على عمله بالشكل الذي وصفناه. ويمكن أن نضع سببين معقولين لحدوث هذه الظاهرة في تاريخ الفكر.
أعتقد بأنه لا حيلة للإنسان أولاً بازاء الصفات التي ينسبها إلى الإله مادام لا يملك غير الصفات التي توجد بين يديه وتتوفر لديه. إن الصفات والكيفيات التي يدركها العقل الآدمي معروفة ومنتهية ولا يمكن الخروج عن نطاقها وابتكار سواها مما لا تعرفه الحواس ولا تتصوره العقول. إذا شرَعَت مثلاً في عدِّ ألوان الأشياء وأحجامها وهيئتها فلن تستمر طويلاً بل سريعاً ما سوف تحس بأنك قد انتهيت من الحسابات والتقدير. وإذا أردت أن تُعمِل عقلك في مسألة ما أو شئت أن تخضع لتفكيرك أمراً من الأمور فلن تزيد - إذا اهتممت بوصفه - حرفاً واحداً على هذه الكيفيات والشبات.
أما السبب الثاني في حدوث هذه الظاهرة فأحسبه ناشئاً عن طبيعتنا نحن البشر في صبغ كل شيء بميولنا، وعجزنا عن التخلص من أهوائنا وعدم قدرتنا على التفكير تفكيراً بريئاً من دوافعنا الباطنية مستقلاً عن شخصياتنا. إن الأشياء في ذواتها لا وجود لها قط في حياة