وإذا وقف الأمر بإسمعيل بن يسار عند الغط في الماء والنفي إلى الحجاز، فلقد أتى الفخر في حضرة الخلفاء على نفس بشار، وأورده مورد الهلكة. ولقد يقول القائلون: إن بشار قضت عليه الزندقة، ويذهبون في ذلك مذهبا ينطلي على عامة الناس وربما أيدوا مذهبهم ذاك بما روى عن واصل بن عطاء، من استعداء على بشار حيث يقول (أما لهذا الأعمى المشنف، المكنى بأبي معاذ من يقتله، والله لولا أن الفيلة سجية من سجايا الغالية لدست إليه من يبعج بطنه في جوف بيته. . .) فما كان يحمل وصلا أن يقول هذه القولة الهائجة المهيجة في حق بشار لولا ما لمسه من زندقته وتحريضه على الفسوق، وإغرائه بالمناكر.
ولقد يسلم مثل هذا القول من النقد لو كان بشار وحده من بين شعراء عصره هو الخارج عن حدود الله، البائح في الغزل المتهالك، المغري للشباب بالفسوق والفجور. إذن لسلمنا واسترحنا وأرحنا. ولكنه كان يضطرب في بغداد مع بشار من هم أشد من بشار مجونا، وأكثر منه غلوا في إفساد الشباب، وذكر السوءات وأبعد مدى في العكوف على اللذات، وكانوا يغدون ويروجون ويعمرون المجالس ويغشون الخلفاء فلا يعرض لهم أحد بشر، ولا يحرص عليهم أحد بقتل أو بمج، فهذا حماد عجرد. وهذا أبودلامة. . يشربان ويطربان، ويقولان في الشراب وفي الدين وفي اللذة ما يقولان، مجاهرة ومعالنة، ثم يغدوان في أمان من الخليفة، وأمان من الخلفاء جميعا وربما انقلبا بكريم الهدايا، وسني الجوائز وقشيب الثياب.
ولقد يسلم هذا القول في بشار. لولا أن العلماء كثيرا ما يكونون (مخالب القطط) التي يتخذها الخلفاء والملوك، يهيئون لهم، ويسايرون أغراضهم، كما يشاء الملق وحب الدنيا، تغريرا بالعامة، وإيقاعا بالبسطاء، فإذا ما أثاروا وصل الحفائظ على بشار، فلما يرى من أحتضائهم، ودالتهم على الخلفاء. وقد حق علينا أن نبدي ما أبرم الخليفة ببشار، فحمله على أن يسطو به هذه السطوة النكراء، حتى يلفظ روحه تحت بطون السياط.
لقد كان بشار عجب مفرط، واعتزاز بالنفس، وإقدام على القول، فإذا بدت له صفحة الكلام نطق، لا يجمجم ولا يتوقف ولا يراجع نفسه، ولقد عرف لنفسه حقها بين يدي الخليفة، كما عرف لها حقها بعيدا عن قصر الخليفة. ولم يعتد الذلة والبذل ماء الوجه حتى في السؤال