شقيق فجزع عليه جزعا شديدا، وقال لمن واساه:(والله لن أرتاح حتى أعلم ما هو عليه بعد الموت، ولن أعلم ما هو عليه حتى أصير إليه) فكأنه لا راحة له طيلة الحياة!
والإنسان إذا استبدت به الحيرة، ودفعته إلى التفكير في أمر مبهم غامض، لا يزال ينتقل من رأي إلى رأي ومن مذهب إلى مذهب، حتى إذا اطمأن إلى معتقد راسخ عاودته الشكوك فتركه إلى سواه. وهذا سر التشعب فيما قيل عن حقيقة الموت وما يليه من خطوات. ومن المسلم به أن كثيرا من الناس قد فكروا في مصايرهم، وخرجوا بنتائج تقترب وتبتعد، وتتفرع وتتجمع، ومنها ما يقف من الآخر موقف المناقض المباين، وأنت تجد بين هؤلاء من يحذر الموت ويخشاه وينظر إلى يومه المحتوم خائفا مذعورا، كما تجد بينهم من ينشد الموت، بل ربما ركض إليه واثبا، فأشاح عنه وتعذر عليه، ولكل من الفريقين دليله المستمد من ظروف معيشته، وواقع حياته - في الغالب - وقد يكون من الأوفق أن نسأل من يحذرون الموت لم يحذرون؟ كما نسأل من ينشدون الموت لم ينشدون؟ ولكل وجهة هو موليها، فبأي منطق يجيب.
لقد كان للفكرة القاتمة التي يأخذها الطفل عن الموت منذ نشأته أثر بغيض يعكس على نفسه شتى الصور الرهيبة، ويزيل من مشاعره معاني الاطمئنان والأمن، فهو في - سنيه الأولى - يسمع الصراخ الفاجع، ويرى الدموع المتقاطرة من أقاربه وذويه، فيسأل عن سر هذا الفزع، فتطرق سمعه لأول مرة كلمت الموت ممزوجة بالنشيج والبكاء، فيبكي هو الآخر متأثرا بما يرى ويسمع، ويتوالى الحمام كعادته بين الناس، فيعيد إلى الطفل ما عرفه من البكاء والنحيب، فيعلم أن الموت كارثة فادحة، ومصيبة حارة، ويتغلغل هذا الأمر في إدراكه ووجدانه، فيشب كارها للموت قبل أن يدرك حقيقته، وقد دأبنا أن نلقن الطفل في مختلف أدواره التعليمية أنباء قاسية عن ملك الموت وما تعانيه لدى انفصالها النهائي من هم وتبربح، فيتعاظمه الأمر، ويتخيل نفسه وقد أحيط بهذه الكوارث فلا يجد مفرجا من ضيق. هذا إلى الأساطير الخيالية التي تتحول في بعض الأذهان عقائد ثابتة، فترسم للذهن الزبانية والمقامع النارية في صور رهيبة حالكة، فلا يسعه إلا الفزع من الموت، ذلك الغول الرهيب الذي ينقل الناس فجأة من الجنة إلى النار. ولو أننا أعطينا للطفل صورة مقبولة عن الموت، وبعدنا بينه وبين من يحتضرون، فلا يشاهد ما يعانيه المريض في مرحلته