ولكنك تسمعه يتكلم فتظن والله أن هذه قطعة ليل تسطع فيها النجوم، وتصعد من حولها الملائكة وتنزل
قال: وكان مجلسه في قصة يوسف عليه السلام، ووافقته وهو يتكلم في تأويل قوله تعالى:(وراوَدَتْه التي هو في بيتها عن نَفسهِ. وغَلَّقَتِ الأبواب وقالت: هَيْتَ لك. قال: مَعَاذَ الله. إنه ربيّ أَحْسَنَ مَثْواي. إنه لا يُفلِحَ الظالمون. ولقد هَمَّت به وَهَمَّ بها لولا أَنْ رأَى بُرْهَانَ ربَّه: كذلك لِنَصْرفَ عنه السوء والفحشاءَ)
قال عبد الرحمن: فسمعت كلاما قدسيا تضع له الملائكة أجنحتها من رضى وإعجاب بفقيه الحجاز. حفظت منه قوله: عجبا للحب! هذه ملكة تعشق فتاها الذي ابتاعه زوجها بثمن بخس، ولكن أين ملكها وسطوة ملكها في تصوير الآية الكريمة؟ لم تزد الآية على أن قالت:(وراودته التي) و (التي) هذه كلمة تدل على كل امرأة كائنة من كانت، فلم يبق على الحب ملك ولا منزلة، وزلت الملكة من الأنثى!
وأعجب من هذا كله (راودته) وهي بصيغتها للمفردة حكاية طويلة تشير إلى أن هذه المرأة جعلت تعترض يوسف بألوان من أنوثتها لون بعد لون، ذاهبة إلى فن راجعة من فن، لأنها من رودان الإبل في مشيتها، تذهب وتجيء في رفق. وهذا يصور حيرة المرأة العاشقة، واضطرابها في حبها، ومحاولتها أن تنفذ إلى غايتها، وكما يصور كبرياء الأنثى، إذ تختال وتترفق في عرض ضعفها الطبيعي، كأنما هي شيْ أخر غير طبيعتها، فمهما تتهالك على من تحب وجب أن يكون لهذا (الشيء الآخر) مظهر امتناع أو مظهر تحير أو مظهر اضطراب، وإن كانت الطبيعة من وراء ذلك مندفعة ماضية مصممة.
ثم قال:(عن نفسه) ليدل على أنها لا تطمع فيه، ولكن في طبيعته البشرية، فهي تعرض ما تعرض لهذه الطبيعة وحدها، وكأن الآية مصرحة في أدب سام كل السمو، منزه غاية التنزيه بما معناه: إن المرأة بذلت كل ما تستطيع في إغوائه وتصبيه، مقبلة عليه ومتدللة ومتبذلة ومنصبة من كل جهة، بما في جسمها وجمالها على طبيعته البشرية، وعارضة كل ذلك عرض امرأة خلعت أول ما خلعت أمام عينيه ثوب الملك.)
ثم قال (وغلقت الأبواب) ولم يقل (أغلقت) وهذا يشعر أنها لما يأست، ورأت منه محاولة الانصراف، أسرعت في ثورة نفسها مهتاجة تتخيل القفل الواحد أقفالا عدة، وتجري من