باب إلى باب، وتضطرب يدها في الإغلاق، كأنما تحاول سد الأبواب لا إغلاقها فقط.
(وقالت هَيْت لك) ومعناها في هذا الموقف أن اليأس قد دفع بهذه المرأة إلى أخر حدوده، فانتهت إلى حالة من الجنون بفكرتها الشهوانية، ولم تعد لا ملكة ولا امرأة، بل أنوثة حيوانية صرفة، متكشفة مصرحة، كما تكون أنثى الحيوان في أشد إهتياجها وغليانها!
هذه ثلاثة أطوار يترقى بعضها من بعض، وفيها طبيعة الأنوثة نازلة من أعلاها إلى أسفلها. فإذا انتهت المرأة إلى نهايتها ولم يبق وراء ذلك شيء تستطيعه أو تعرضه بدأت من ثم عظمة الرجولة السامية المتمكنة في معانيها، فقال يوسف:(معاذ الله) ثم قال: (إنه ربي أحْسَنَ مَثواي) ثم قال: (إنه لا يفلح الظالمون) وهذه أسمى طريقة إلى تنبيه ضمير المرأة في المرأة، إذ كان أساس ضميرها في كل عصر هو اليقين بالله، ومعرفة الجميل، وكراهة الظلم. ولكن هذا التنبيه المترادف ثلاث مرات لم يكسر من نزوتها، ولم يفتأ تلك الحدة، فإن حبها كان قد أنحصر في فكرة واحدة اجتمعت بكل أسبابها في زمن في مكان في رجل، فهي فكرة محتسبة كأن الأبواب مغلقة عليها أيضا، ولذا بقيت المرأة ثائرة ثورة نفسها، وهنا يسود الأدب الإلهي السامي إلى تعبيره العجز فيقول (ولقد همت به) كأنما يومي بهذه العبارة إلى إنها ترامت عليه، وتعلقت به، والتجأت إلى وسيلتها الأخيرة، وهي لمس الطبيعة بالطبيعة لإلقاء الجمرة في الهشيم. . .!
جاءت العاشقة في قضيتها ببرهان الشيطانالذي يقذف به في أخر محاولته. وهنا يقع ليوسف عليه السلام برهان ربه كما وقع لها هي برهان شيطانها. فلولا برهان ربه لكان هم بها، ولكن رجلا من البشر في ضعفه الطبيعي.
قال أبو محمد: وههنا ههنا المعجزة الكبرى، لأن الآية الكريمة تريد ألا تنفى عن يوسف عليه السلام فحولة الرجولة، حتى لا يظن به، ثم هي تريد من ذلك أن يتعلم الرجل، وخاصة الشبان منهم، كيف يتسامون بهذه الرجولة فوق الشهوات، حتى في الحالة التيهي نهاية قدرة الطبيعة، حالة ملكة مطاعة فاتنة عاشقة مختلية متعرضة متكشفة متهالكة. هنا لا ينبغي أن ييأس الرجل، فإن الوسيلة التي تجعله لا يرى شيئا من هذا - هي أن يرى برهان ربه.
وهذا البرهان يؤوله كل إنسان بما شاء، فهو كالمفتاح الذي يوضع في الأقفال كلها فيفضها