كلها، فإذا مثل الرجل نفسه في تلك الساعة أنه هو وهذه المرأة أمام الله يراهما، وأن أماني القلب التي تهجس فيه ويظنها خافية، إنما هي صوت عال يسمعه الله، وإذا تذكر أنه سيموت ويقبر، وفكر فيما يصنع الثرى في جسمه هذا، أو فكر في موقفه يوم تشهد عليه أعضاؤه بما كان يعمل، أو فكر في أن هذا الإثم الذي يقترفه الآن سيكون مرجعه عليه في أخته أو بنته - إذا فكر في هذا ونحوه رأى برهان ربه يطالعه فجأة، كما يكون السائر في الطريق غافلا مندفعا إلى هاوية، ثم ينظر فجأة فيرى برهان عينه، أترونه يتردى في الهاوية حينئذ، أم يقف دونها وينجو، احفظوا هذه الكلمة الواحدة التي فيها أكثر الكلام، وأكثر الموعظة، وأكثر التربية، والتي هي كالدرع في المعركة بين الرجل والمرأة والشيطان، كلمة (رأى برهان ربه). قال عبد الرحمن بن عبد الله وهو يتحدث إلى صاحبه سهيل بن عبد الرحمن: ولزمت الإمام بعد ذلك، وأجمعت أن أتشبه به، وأسلك في طريقه من الزهد والمعرفة، ثم رجعت إلى المدينة وقد حفظت الرجل في نفسي كما أحفظ الكلام، وجعلت شعاري في كل نزعة من نزعات النفس هذه الكلمة العظيمة:(رأى برهان ربه)، فما ألمت بإثم قط، ولا دانيت معصية، ولا يرهقني مطلب من مطالب النفس إلى يوم الناس هذا، وأرجو أن يعصمني الله فيما بقي، فإن هذه الكلمة ليست كلمة، وإنما هي كأمر من السماء تحمله تمر به أمنا على كل معاصي الأرض فما يعترضك شيء منها كان معك خاتم الملك تجوز به. قال سهيل: فلهذا لقبك أهل المدينة (بالقس) لعبادتك ولزهدك وعزوفك عن النساء، وقليل لك والله يا أبا عبد الله، فلو قالوا: ما هذا بشرا إن هذا إلا ملك، لصدقوا.
قالت سلامة جارية سهيل بن عبد الرحمن المغنية الحاذقة الطريفة، الجميلة الفاتنة، الشاعرة القارئة، المؤرخة المتحدثة، التي لم يجتمع في امرأة مثلها حسن وجهها، وحسن غنائها، وحسن شعرها - قالت: واشتراني أمير المؤمنين يزيد بن عبد الملك بعشرين ألف دينار (عشرة آلاف جنيه) وكان يقول: ما يقر عيني ما أوتيت من الخلافة حتى أشتري سلامة، ثم قال حين ملكني: ما جاء بعد من أمر الدنيا فليفتني، قالت: فلما عرضت عليه أمرني أن أغنيه، وكنت كالمخبولة من حب عبد الرحمن القس، حباً أراه فالقا كبدي، آتيا على حشاشتي، فذهب عني والله كل ما أحفظه من أصوات الغناء، كما يسمح اللوح بما كتب فيه، وأنسيت الخليفة وأنا بين يديه، ولم أر إلا عبد الرحمن ومجلسه مني سألني أن أغنيه