للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

ولم تسفر الأيام عن أصدق من هذا المثل الإنجليزي الحاضر لقدرة الخلق العظيم على حياطة الدولة ووقاية الأمة وخلق المعجزة التي تحيل القنوط أملاً والضعف قوه

كانت أوربا في العام المنصرم من طول ما هولت عليها الهتلرية الباغية قد وقفت صفوفاً متلاصقة متلاحقة من الشباب والحديد والنار ترابط على الحدود لشياطين الصليب الآعقف؛ وكانت إنكلترا من وراء البحر تمدها بالمال والرجال والأسلحة لا تدخر لجزرها شيئاً منها، ولا تكاد تخطر على بالها أن العدو سيجد من بين هذه الصفوف المرصوصة ثغره يقتحمها ليرميها عنها. ولكن هتلر هجم على أخلاق أوربا قبل أن يهجم على جيوشها؛ فهتك أستار الدول بالجواسيس، وبلبل عقائد الناس بالدعاية، وشرى ضمائر الساسة بالمنى، وبث في دخيلة كل أمه دعاة الهزيمة وسماسرة النفاق يزيفون الوطنية في كل نفس، ويميتون الحميه في كل رأس، حتى تركوا القوم تماثيل من غير خلق ولا روح؛ ثم أرسلوا على هياكلهم النخرة الجوفاء الدبابات كما ترسل على هشيم الحنطة آلة الحصاد. فلم تك إلا أيام تضيق عن فناء القطيع بالوباء السريع، حتى استكان الضعيف، واستخذى القوي، وانبسط ظلام النازية، على ممالك كانت بالأمس مسارح للسلطان والمجد، فأصبحت اليوم سجوناً لأحياء وقبوراً للموتى، ووقفت إنجلترا وحدها أمام أوربا الصارعة المصروعة، وقد فرغ لها الطاغيتان وسلطا عليها في الغرب والشرق، وفي الجو والبحر، كل ما ادخراه وارصداه من آلات الدمار والبوار في بضع سنين

كانت خطتها في الدفاع قائمة في أكثر ميادين البر على عاتق فرنسا؛ فلما وهى هذا العاتق ونحل سقطت هذه الخطة على خلاء. فكانت على إنجلترا بعد نكبة جيشها في الشمال وانهيار حليفتها المفاجئ أن تجدد العدة وتسد الخلل وتدفع الموت الهاجم على أرضها ونيلها من الجهات الأربع؛ وكل ذلك كان يقتضي أن يكون لها في كل أرض جيش، وفي كل بحر أسطول، وفي كل سماء أسراب. فلو أنها استجابت لهذه الجدود العواثر ونكلت نكول فرنسا لما خالف ذلك منطق الحوادث

ولكن هنا ظهرت المعجزة، وما المعجزة إلا خلق هذا الشعب المختار! تجرد هذا الشعب عن فرديته، ونزل عن حريته وثروته، وجعل مُلكه وجهده وروحه في يد تشرشل ينفقها حيث يشاء وكيف يشاء؛ وانكب هو على العمل الدائب ليل نهار، لا تعوقه الأخطار ولا

<<  <  ج:
ص:  >  >>