للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مشانقه؟ قالوا: لا، جاء ما هو شر منه وأمر، غورو، قلنا: وما غورو؟ قالوا: الأعور. . . فاعتقدنا أنه الأعور الدجال الذي يظهر في آخر الزمان!

ورأينا الدنيا تقوم وتقعد، ففي كل مكان حشد، وعلى كل منبر خطيب، وعجت الشوارع بالناس، ولم نكن نفهم ما يجري من حولنا، وإن كنا نسعى في أعقاب الناس متسائلين مشاركين ما استطعنا، ثم رأينا الجموع تمضي إلى النادي العربي. . .

النادي العربي الذي كان مثوى الوطنية، وكان لنا نحن لصغار المنار الهادي، من خطبه تعلمنا الخطب، ومن بيانه قبسنا البيان، ومن رجاله عرفنا الرجال، هذا النادي الذي خان أهله عهده، وهدروا مجده، وقعدوا به بعد العز، ونسوه بعد أن كان هو الذي يذكرهم أوطانهم، فغدا ويا خجلتاه حانة، أو شيئاً يشبه الحانة، يقال له شهرزاد!

مضت الجموع إلى النادي يموج بعضها في بعض، ومضينا نتبعهم، حتى إذا وقفوا اطل عليهم من شرفته اخطب خطيب عرفته، وأطلقه لسانا، وأشرفه بيانا، واشده على القلوب سلطانا شيخنا وأستاذنا الشيخ عبد الرحمن سلام البيروتي الشاعر الفقيه رحمة الله وسير في الناس طيبة ذكراه، اطل على بحر من البشر يزخر بأقوام برزوا للموت، يدفعون الغير عن الحمى، ويحمون الذمار، فامتلأ بهم ما بين المستشفى العسكري، ومحطة الحجاز، وميدان الشهداء، وحديقة الأمة، ولم يبق في تلك الرحاب كلها موطئ قدم، اطل فلما رأى الناس استعبر وبكى، وخطب خطبة إذا قلت زلزلت القلوب أكون قد أقللت، وإن قلت ألهبت النفوس أكون قد بلغت، خطبة لو كانت بلاغة بشر معجزة لكانت من معجزات البلاغة، خطبة ما سمعت مثلها، وقد سمعت ملوك القول، وفرسان المنابر، حملتني هذه الخطبة إلى آفاق المستقبل، فنسيت أني تلميذ صغير، ورأيتني رجلا، ثم صبت البطولة في أعصابي، فأحسست أني كفولغورو، وجيشه العادي أرده وحدي، وكبرت في نفسي حتى صغر الأعور الدجال، الذي خافوه وخوفونا منه، فلم يعد شيئا، وإني لا أزال احفظ منها قوله عليه رحمة الله، وقد سكت لحظة وهو يخطب، وسكت الناس حتى لو أنك ألقيت إبرة على بساط لسمعت لها صوتا، ثم ولى وجهه تلقاء المغرب، وصرخ من قلبه الكبير صرخة لا تزال إلى اليوم تدوي في مسمعي: (غورو! لن تدخلها إلا على هذه الأجساد)! وأعقبتها صرخة أخرى، تقلقل لها الفلك، ورجف الكون، تكبيرة واحدة انبعثت من أربعين ألف حنجرة

<<  <  ج:
ص:  >  >>