للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

مؤمنة!

ومضى الناس قدما إلى ميسلون!

أما نحن فمضينا إلى بيوتنا، فما كان فينا من بلغ سن القتال

ولم يكن إلا يوم وبعض يوم حتى رأينا الدنيا تتبدل غير الدنيا وأبصرنا كل شئ قد تغير، وإذا الناس في جمود كأنهم في مآتم، وإذا الخطباء الذين كانوا ملء الأسماع وإلا بصار قد اختفوا، وإذا الأعلام ذوات الألوان الأربعة قد طويت، وإذا فيصل الذي كنا نهتف باسمه ونعتز به، ويشعر كل واحد منا أنه يملك فيه ملكا إذ يكون له مكان، قد سافر وخلا منه قصره في (العفيف)، فاحتله عدوه، ونام فيه على فرشه، واستوى على عرشه، فخرنا وسألنا: ماذا جرى يا ويحكم حتى انهار الصرح في يوم واحد. وضاع البشر، وتبدلت الدنيا، قالوا: اذهبوا لا تسألوا، أننا خسرنا، ورجعنا من (ميسلون)، وقد خلفنا فيها استقلالنا الوليد، وقائدنا الشهيد، وصارت الغلبة لهذا العادي العاتي الذي اقتحم علينا بلد اقتحام الغاصب، وغورو! قلنا: الأعور الدجال؟ قالوا: اسكتوا، اسكتوا، لا يسمعكم أحد

وذهبنا نستطلع حقيقة الخبر، فقادتنا الخطأ إلى (الثكنة الحميدية)، فوجدنا عندها جندا غرباء عنا، سدواً برابرة، وسمراً مغاربة، وشقراً فرنسيين، وإذا هم يخفضون علمنا، ويلقونه، ويرفعون علما فيه ثلاثة ألوان. . . وتلفت فإذا رجال منا واقفون ورائي، ودموعهم تسيل على خدودهم في صمت وحرقة وألم خفي يأكل الأكباد، وكان ذلك يوم ٢٤ تموز سنة ١٩٢٠، وكانت تلك هي (الدموع) الأولى!

ومر ربع قرن، خمس وعشرون سنة كاملة لا تنقص يوما ولا تزيد يوما، حملنا فيها ألوان الأذى، وذقنا فيها الموت من كل طبق، وعلى كل خوان، ورأينا النار تآكل دورنا، والقنابل تهدم على رؤوسنا منازلنا، فتهدمت بيوت من أبهى وأغلى وأحلى بيوت دمشق، وقضى فتية من اجمل واكمل وأنبل فتيتها، وأبصرنا أياما سودا، ومصائب شدادا، ولكنا ما جبنا ولا خفنا، وكنا عزلا قلة، وكانت قريعتنا فرنسا القوية العظيمة ذات الحول والطول، فقارعنا فرنسا، ولقينا بصدورنا الرصاص، وهجمنا بالخناجر على الدبابات، وقابلنا بالحجارة الرشاشات، وصبرنا فانتصرنا

وكان يوم ٢٤ تموز سنة ١٩٤٥، ورأيت بعيني العلم ذا الألوان الأربعة يرتفع مرة ثانية

<<  <  ج:
ص:  >  >>