المدن الكبيرة فكيف نبلغ هذه القرية، وليس من قطار مباشر يصلنا بها، وليس من مهاجرين يقصدون إلى الدير؛ وكيف أقنع من حولي أن ثمة مخطوطات عربية يجب أن أراها؟! جزعت حين عرضت الأمر على أصدقائي من الألمان فضحكوا. إن السكان لا يبلغون المأكل والملبس، ونحن نفتش عن زينة الحياة وترف العلم، نحي الكتب القديمة ونعنى بالأوراق الصفراء، والأشخاص حولنا يتضورون جوعاً! فما أعجب الدنيا!
استطعت بعد جهد أن أقنع سيارة تقلني في شروط قاسية؛ بعضها أننا سنقطع أياما فيما يجتازه المسافر من قبل في ساعات، والسيارة هي السيارة، ولكن جهازها اليوم عجيب لا يأكل إلا الخشب وقد حرم (السائل) النادر هو كذلك. فعاج السائق إلى برميل كبير يرمى فيه قطعا من الخشب تحترق خلال بعض الساعة فإذا الجهاز يؤذن بالحركة وإذا نحن نمضي في الطريق.
لا أستطيع أن أتصور عواطفي الآن، ولست أذكر أكان على أن أضحك أم أحزن. فصوت السيارة غريب، ودخانها الأسود كان يلفح مع الربح وجوهنا، فنفرح أن السيارة جادة، وما هي إلا ساعة حتى نهدد بالوقوف لأن المحرك جاع، فلنفرغ بعض الكيس من الخشب ولنمض كذلك في مرتفعات ساحرة ووديان فتانة؛ تنسينا هزل الزمان وسخرية الأيام، وما يصنع الإنسان بالإنسان حتى بلغنا القرية التي نقصد إليها؛ وإذا القرية لا تعدو عشرات البيوت في وادي جميل عطر، وإذا بناء الدير يقوم في عظمة لحراسة الوادي والإشراف على خيراته.
دخلنا سور الدير، وقرعنا الجرس؛ فإذا الكاهن البواب يسألنا عن الغرض والغاية؛ فتولى صديقي الكلام ورجا عني أن (ألقى الأب الأول) كما يسمونه فهو رئيس الآباء وراعي الدير. فدخلت حجرة الانتظار بين صور القديسين والصلبان، ولبثت واقفا حتى فتح الباب فإذا الأب المنتظر قد سلخ في السن، وعلى عينيه نضارتان سوداوان، وعلى صدره صليه الذهبي الكبير المتلدي، فسارعت إلى الأرض جاثيا على الركبة اليسرى واستملت يده أفتش عن الخاتم الذي أقبله بشفة مرتجفة وقلب مضطرب لئلا يخونني التمثيل فيكشف أمري وتبوء مهمتي بالفشل وأعود أدراجي لا ألوى على شئ.
انفرجت أسارير الرجل المحترم ورحب بي وعرف من لهجتي الألمانية أني غريب وأني