كان يوم الهجرة إلى المدينة وما قبله تشريعاً من الله في حياة الرسول للفرد المستضعف إذا بغي على حقه الباطل، وطغى على دينه الكفر، ليعرف كيف يصبر ويصابر، وكيف يجاهد ويهاجر، حتى يبلغ بحقه ودينه دار الأمان فيقوى ويعز.
وكان يوم العودة إلى مكة وما بعده تشريعاً من الله على لسان الرسول ويده للأمة إذا اتسعت رقعتها، واتحدت كلمتها، واستحصدت قواها، لتعلم كيف تنسى الضغائن إذا ظفرت، وتحتقر الصغائر إذا كبرت، ثم لا تحارب إلا في الله، ولا تسالم إلا في الحق.
كانت المدينة وحدها بعد يوم الهجرة مجالا لسياسة الرسول يضم شتات الجماعة، ويوثق عقدة الأمة، ويجمع أهبة الحرب، فألف بين الأوس والخزرج، وآخى بين المهاجرين والأنصار، وعاهد بين المسلمين واليهود، حتى تكتَّب في يثرب جيش الله الذي فتح الدنيا بفتح مكة.
ثم كان العالم كله بعد يوم الفتح مشرقاً لوحي الله وهدى الرسول، فطهره الإسلام من الأرستقراطية بالمساواة، ومن الرأسمالية بالزكاة، ثم علم الناس حكم الشورى، وألزمهم قضاء العدل، حتى أخرجهم من الوطنية المحدودة إلى الإنسانية المطلقة.
إن هجرة الرسول ملحمة من ملاحم البطولة القدسية لا يفتر عن إنشادها الدهر! استمدت إلهامها من وحي الله، وروحها من خلق الرسول، وعملها من صدق العرب، واستقرت في مسامع الأجيال والقرون مثلا مضروباً لقواد الإنسانية، يعلمهم الصبر على مكاره الرأي، والاستمساك في مزالق الفتنة، والاستبسال في مواقف المحنة، والاستشهاد في سبيل المبدأ.
فاذكروا يا ساسة العرب وأنتم تجتمعون اليوم لتوثقوا روابط الجامعة العربية أن الرسالة المحمدية التي هاجرت مغلوبة من مكة إلى المدينة، سافرت غالبة من الشرق إلى الغرب، بفضل مبدئها الإلهي الذي قامت عليه ودعت إليه وفازت به، وهو توحيد الله، وتوحيد الكلمة، وتوحيد الخطة، وتوحيد الغاية.
اذكروا لماذا نذكر صاحب الهجرة في كل أذان وفي كل صلاة من كل يوم. هل نذكر اسمه مع اسم الله تعبداً به؟ معاذ الله فما يكون الشرك غير هذا. إنما نذكر الله ونذكر بعده محمداً كما نذكر القاعدة ومعها المثل، أو النظرية وبعدها العمل؛ لأن الله يوحي والرسول يبلغ،