مختلف البلاد، ويصف لنا مجتمعات العصر وأحواله وأخلاقه وعاداته؛ كل ذلك بقوة وإفاضة وبيان شائق؛ وقد كان كازانوفا في الواقع رحالة عظيما، وكان يتمتع بمواهب بديعة في الملاحظة والدرس والوصف وفي تفهم عقلية الأفراد والطبقات؛ هذا إلى خيال خصب يسبغ على قصته كلها طابعاً من السحر؛ وقد يطبع بعض أقواله ومزاعمه أحيانا طابع من المبالغة، ولكن ذلك لا ينتقص من متاع قصته وسحرها
ولقد لفتت مذكرات كازانوفا منذ ظهورها في أوائل القرن التاسع عشر أنظار النقد الأدبي، فنوه بعض النقدة بقيمتها الأدبية، وحمل عليها البعض الآخر؛ وأبدى سانت بيف أستاذ النقد نفسه عطفه عليها وعلى مؤلفها ذلك المحب الأمثل الذي لم يسمح قط للمرأة بأن تسوده؛ ولكن جول جانان وهو ناقد آخر يحمل عليها ولا يرى في مؤلفها سوى دعي أفاق تحدوه شهوات مضطرمة؛ وكذلك يرى فرانسوا ماسون في كتابه عن (الأب برني) أنه هذه المذكرات ليست سوى مزيج من الأكاذيب المزرية؛ بيد أن النقد المعاصر يرى في مذكرات كازانوفا أثراُ جديرا بالتقدير، ويرى في صاحبها شخصية جديرة بالعطف رغم عيوبها ومثالبها؛ ومن ذلك ما يعلق به مسيو أوكتاف أوزان على المذكرات في فصل نقدي كتبه في هذا الموضوع:(لماذا ننحى باللوم على ذلك المحب المعاصر للويس الخامس عشر، لأنه أرانا وعرض علينا خلال عصره المنحل، وهي خلال كانت تعتنقها أعظم الشخصيات التي كتب عنها؟ وهل يحق لنا أن نمعن في الانتقاص من ذلك السرور الذي يتحفنا به عند قراءة (المذكرات)، وأن نحمل على تلك الأخلاق الفردية المثيرة؟. . . إن كازانوفا لم يكن أفضل ولم يكن أسوأ من أعظم الشخصيات التي ظهرت على مسرح العالم في القرن الثامن عشر)
وتقدم إلينا هذه المذكرات الحافلة الممتعة كازانوفا في جميع صوره ومناحيه؛ في صورة المحب المضطرم الذي يطارد المرأة بكل ما وسع من شغف وجوى، ويأسرها بظرفه وسحره، ويظفر بها في كل المواطن؛ وصورةالمغامر الجريء الذي يتسلح بذكائه وخبثه ومزاعمه ليغزو المجتمع ويعيش على هامشه بأي الوسائل؛ وصورة السائح المتجول الذي يجوب أوربا من أقصاها إلى أقصاها باحثاً عن المال والمتاع أنى استطاع؛ وصورة السيد الذي ينعم بالمال والثراء، أو صورة الشريد الذي لا يملك قوت يومه؛ وأخيرا صورة المفكر الأديب الذي يلتمس النسيان في القراءة وتسطير الماضي