وتبذ صورة المحب المضطرم في شخصية كازانوفا كل صوره الأخرى، وهي بلا ريب أبرز صور حياته كما هي أبرز الصور في مذكراته. أجل كان كازانوفا محباً شغوفا ملتهب الجوانح، وكانت المرأة عنده غاية الغايات، وقد حبته الطبيعة كما أسلفنا بكل ما ينبغي أن يتسلح به المحب الظافر من خلال وصفات خلابة، ويندر أن نجد بين غزاة المرأة من غص بالظفر في هذا الميدان كما غص به كازانوفا، ومازال اسم كازانوفا إلى يومنا لقب المحب الظافر؛ ولقد كان كازانوفا مادياً في حبه كما كان في سائر وجهات حياته، ولم تكن العاطفة عنده شيئاً مذكورا، وكان قلباً في الحب لا يكاد يظفر بغزو حتى يسعى إلى غزو آخر، وكان يرتفع في طموحه إلى أرفع البيئات والشخصيات، وينحط إلى أسفل البيئات والمواطن، فنراه يظفر بطائفة من أكابر السيدات في جميع المجتمعات التي تقلب فيها من نبيلات ونسوة متزوجات وممثلات ومغنيات وغيرهن، ونراه يهبط أحياناً إلى مجتمع الشعب المتواضع فيغزو عاملة أو خادمة؛ وإليك مثلاً مما يقصه علينا في مذكراته مما يوضح فلسفته في الحب، ففي ذات يوم كان ينتظر جياداً لمركبته في طريق رومه، فمرت به عربة تحمل مغنية حسناء ذائعة الصيت يومئذ، وكان كازانوفا يعشق المغنيات والممثلات بنوع خاص، ولكنه يقول لنا:(ومع أنها كانت فتية وكانت حسناء، فإنها لم تثر في نفسي رغبة ما، ذلك أنها كانت حسناء جداً، بادنة جداً. ولكن خادمتها كانت بالعكس فتاة سمراء ساحرة ذات قد ممشوق وعينين وضاءتين، فوقعت في حبها على الأثر)
ويذكر لنا كازانوفا في مذكراته عشرات وعشرات من النساء اللائى ظفر بهن خلال حياته الغرامية الحافلة. وهو تعداد لا يتسع له المقام هنا، وقد ذكرنا فيما تقدم طائفة من الأسماء التي غزاها إبان ازدهار مغامرته؛ والظاهر أن كازانوفا لم يتأثر في حياته بحب امرأة وسحرها قدر ما تأثر بحب راهبة حسناء من (ميران) يرمز لها في مذكراته بحرفي (م. م)؛ وهو يصف لنا روعة قوامها وروعة جمالها بحماسة مؤثرة؛ وقد كانت م. م في الواقع امرأة ساحرة الخلال تضطرم شغفاً وجوى، وكانت تختفي تحت ثيابها الكهنوتية نفساً ناعمة تواقة ملتهبة، وكانت تقتحم أروع الأخطار لتحيا تلك الحياة المزدوجة؛ حياة التقشف في الدير، وحياة اللهو والقصف خارج الدير؛ وبينما ترى بالنهار في ثياب راهبة محتشمة، إذا بها تسطع بالليل كالحلية في مرقص أو منتدى وتبذ بفائق حسنها وأناقتها كل حسناء أخرى؛