للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وقد كانت تطلق العنان لشهواتها المضطرمة ما شاءت، ولكنها كانت قوية النفس تضبط هواها متى وجب؛ ويصورها كازانوفا بأنها المحبوبة المثلى في حسنها وفي خلالها وسحرها؛ وقد ترك هواها في نفسه بلا ريب أعمق الآثار وأبقاها

ثم يأتي بعد صورة المحب، صورة السائح؛ وقد كان كازانوفا سائحاً عظيماً يجوب أرجاء القارة بلا انقطاع؛ وكان يعشق التجوال في عصر كان السفر فيه مشقة حقيقة؛ وقد رأيناه يجوب أرجاء القارة مراراً؛ وكان كازانوفا يجد في السفر لذة عظيمة، ويتخذ أثناء تجواله مظاهر السيد العظيم فيستأجر أفخر المركبات والجياد، وينزل في أفخم الفنادق، وينثر المال والعطاء من حوله، ولكنه كان في رحلاته مغامراً، لا تغريه سوى رغباته وأمانيه، ولا تغريه مشاهد الطبيعة الرائعة؛ ولهذا نراه في مذكراته يعنى بسرد مغامراته أثناء الطريق، وسرد ملاحظاته عن الأشخاص والحياة والنساء بنوع خاص؛ وقلما نراه يعنى بوصف البلاد أو مشاهد الطبيعة؛ بيد أنه يبدي فيما يصف من أحوال المجتمعات والأشخاص دقة تدلي بقوة ملاحظته وحسن أدائه

ويقدم كازانوفا إلينا خلال حياته صورتين قويتين متباينتين؛ فنراه إما سيداً كبيراً ينعم بالجاه والثراء، وإما شريداً بائساً يتخبط بين براثين الفاقة؛ وفي الحالة الأولى نراه يقتحم المجتمع الرفيع، وينعم بكل ما في الحياة من متاع وبذخ، ويصل إلى مجالسة الملوك والأمراء والعظماء من كل ضرب؛ ألم يجالس لويس الخامس عشر وفردريك الأكبر، والإمبراطورة كاترين، والبابا، وفولتير، وغيرهم من أكابر العصر؟ ثم نراه في كهولته شريداً بائساً يتقبل في سبيل القوت مضض المهانة والمذلة؛ بيد أنه في الحالين يحتفظ بقوة نفسه، وأثرته، وأمانيه؛ ذلك أن كازانوفا كان فيلسوفاً يقصد إلى الحياة بأي الوسائل، ولا يروعه أن يحقق متاعها بأي السبل، ولم يكن المال في نظره إلا وسيلة من وسائلها

وقد كان كازانوفا منذ نشأته رجلاً مثقفاً واسع المعرفة بالنسبة لمجتمع عصره؛ وكان في أواخر حياته يعتز بمواهبه العلمية والأدبية ويأنس سعادة عظيمة في إطلاق العنان لقلمه؛ ولم تكن المذكرات كل ما يكتب، فقد كان يتصل بالمكاتبة بجماعة من أعلام عصره، وكانت له آراؤه الخاصة في أحوال العصر وأحداثه؛ وكان يسخط على الثورة الفرنسية ويعتبرها حركة جنونية وقد كتب برأيه إلى روبسبيير في رسالة مستفيضة

<<  <  ج:
ص:  >  >>