من فضل الله، وفضل الله يؤتيه من يشاء لحكمة لا يدخل تعليلها في
منطق عباده
يرى الراصد البعيد تلك النفس اللطيفة التي أشبلت على مواهب هذا الشاعر وعواطفه شقيقةً وصديقةً وزوجةً، فيذكر أم المؤمنين التي حضنت الرسالة وواست الرسول وناصرت الدعوة. ثم يسمع هذا الشاعر المفجوع يهتف بشهر يونية وبما تفجر فيه على قلبه من ينابيع بعضها يسيل هادئاً باللذة، وبعضها يهدر صاخباً بالألم في ذكر شهر رمضان وما تجمع فيه للإسلام من الذكريات الملهمات من يوم بدر، إلى ليلة القدر. ثم يرى هذا الفيض الشعري الدافق ينبجس فجأة على لسان (المدير) بعد سن الأربعين، فيذكر الفضل الذي آتاه الله سيد البلغاء محمداً رسوله وهو في هذه السن فيفاجأ أمراء القول ببلاغة تشبه الإلهام لأنه لم يعانها ولم يتكلفها ولم يرتض لها ولم يشتهر بها قبل البعثة.
ذلك ما يراه الراصد البعيد وما يذكره. أما الناقد العليم بأسرار القلوب يرى أن زوج هذه النفس اللطيفة كان يقول الشعر منذ ثلاثين سنة. كان يقوله حين خالصها الإخاء وهي قريبة، وحين صافاها المحبة وهي خطيبة، وحين صادقها الوفاء وهي زوجة؛ ولكن شعره في هذا العهد الحبيب الخصيب كان صامتاً لا ينطق به لسان ولا قلم؛ لأن الشعور السعيد كالماء اللجي إذا عمق هدأ ثائر وسكن سطحه. والأليفان إذا لبس كل منهما صاحبه خيل إليهما أنهما الصورة، وكل ما على الأرض من شخص وشيء إطار؛ فالشاعر يشدو بهما، والمغني يغني لهما، والطبيعة الصادحة والباغمة كلها تعبر عن النظرة الساهمة في العين الحالمة، وتفسر اللفظة الهائمة على الشفة الباسمة؛ فما بهما إذن من حاجة إلى كلام يقاس بالتفاعيل ويحد بالقافية.
كان ذلك والعش الوثير الدافئ ناعم في ظلال الأمن، غارق في صفاء النعيم؛ فلما لحظته عيون الغير، وقوضته أيدي شعوب، ارفض صبر الشاعر وهي خلد الزوج فجأر بالشكوى وزفر بالأنين؛ وكان من تلك الزفرات الحارة وهذه الأنات الحائرة مجموعة من الشعر الباكي استوجفت القلوب واستوكفت العيون وإن هش بها الفن وصفق لها الأدب! وهكذا استطاع الحزن أن يحمل شاعرنا على أن ينوح، ولم يستطع السرور أن يحمله على أن يغرد.