ثم ضاق وسُعه عن احتمال أساه، فطفق ينشد العزاء في مآسي الأزواج الذين تساقوا كؤوس الهوى صافية مترعة، ثم سعى بينهم الدهر، وصدع شملهم البين، فمزج دمعه الدامي بدموع قيس وجعفر، وبكى ربعه الموحش في ربوع لبنى والعباسة. فكان شعره الدرامي تعبيراً عن ذاته وتمثيلا لمأساته، وإن تغيرت لأسماء وتباينت الصور واختلفت النتائج.
شعر عزيز باشا الذي سمعناه أو قرأناه شعر عالي الطبقة؛ جرى فيه على سنن الفحول من صاغة القريض، فنضّد اللفظ وجود المغنى وراض القافية، وهي صفات لا تكتسب إلا بسعة الاطلاع وطول المعاناة وقوة المَلكة. وإن له في الديوان الأول قصائد ترفعه إلى المكانة العليا من شعراء العربية. ولكن هذا الشعر كله قد قطَر من فؤاده القريح كما يقطر الدمع من العين أو الدم من الجرح؛ فهو وليد الأسى وربيب الألم. فليت شعري أيعتريه الذُّوِىّ إذا ما التأم جرحه واندمل قلبه وجف ينبوعه، أم يَفْجُر الله له ينابيع أخرى تسقيه وتغذيه فيزكو ويتلون ويتنوع؟ إن الرجل فنان موهوب ما في ذلك شك. وإن فنه الحزين قد استطاع على قرب عهده بالحداد أن يحلق فوق السحائب الجون فيكشف آفاقاً بعيدة ويخلق معاني جديدة. ولعلك تجد في العباسة على الأخص مصداق ذلك، فإن فيها الغزل الرقيق، والفلسفة الراشدة، والسياسة الحكيمة، والنوازع النفسية، وكل ذلك حوار قوى، وتشويق جاذب، وتنسيق عجيب، ومواءمة بين المعنى واللفظ، وملاءمة بين الموضوع والوزن؛ ومثل ذلك لا يتسنى إلا لمن ملك ناصية الشعر وقبض على أزمة البلاغة
لهذا النبوغ الأصيل، وهذا الشعر الفخم الجميل، استحق شاعرنا التكريم. ومن تكريم الله إياه أن كرمه صاحب الجلالة الفاروق بأرفع الرتب في الدولة. ولهذا الإنعام السامي مغزى خطير وأثر كبير في نهضة الأدب وحياة أهله: مغزاه الخطير أنه توجيه ملكي كريم إلى ما ينبغي أن يكون عليه أمر الأدب قدر الأديب في هذا العهد. وهو تنويه بشأن البلاغة العالية في الوقت الذي طاولها فيه الأدب الخسيس فطغت السوقية على الصحافة والعامية على المسرح.
وأثره الكبير أنه تشجيع رفيع لعزيز باشا على أن يجرى إلى أبعد الغايات في شعره، تحقيقاً لرغبة المليك وقياماً بواجب شكره. وهو تشجيع لكل شاعر على أن يجدد ويجيد التماساً لرضا الفاروق حلمي ونصير الأدب.