للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

سره وغايته ويبرهن على إمكانه أو ضرورته. وليس ثمة فلسفة إلا قالت في الخلود كلمتها بالإيجاب أو السلب، بالقبول أو الرفض، وأي فيلسوف لم يتساءل من أين جئنا وإلى أين نذهب ولم يبحث عن المصدر والمرد والمبدأ والمعاد؟

فاليونانيون وإن كانوا قد شغلوا بالكون وتغيراته والحياة الحاضرة وقوانينها لم يفتهم أن يدلوا في هذا الموضوع الخطير بآرائهم. ورجال القرون الوسطى كان لابد لهم أن يبدئوا فيه ويعيدوا ويعترضوا ويجيبوا، فهو من فلسفتهم الدينية في صميمها ونقطة هامة من نقط التوفي بين العقل والنقل التي ملكت عليهم أذهانهم. وفي التاريخ الحديث نرى الروحيين والماديين بين مثبتين للخلود ومنكرين. وإذا شئنا أن نمثل لكل عصر من هذه العصور برجل فهناك شخصيات ثلاث لا يكاد يذكر موضوع الخلود إلا ذكرت، ولا نظن أن آخرين سواها تمثل عصرها في هذا الباب تمثيلها، ونعني بها أفلاطون، وابن سينا، وكانت.

فأما أفلاطون فهو من غير شك أكثر فلاسفة اليونان اشتغالا بالخلود وأول من حاول أن يبرهن عليه برهنة عقلية منطقية. تحدث عنه عرضا في غير ما موضع، ثم لم يقنع بهذا فوقف عليه محاورة مستقلة مشهورة هي (فيدون). وفيها يجري ذلك الحديث العذب الأخاذ على لسان أستاذه سقراط ومن حوله من الأتباع والتلاميذ. وأفلاطون روائي ماهر وقصصي مبدع يعرف كيف يضع روايته ويرتب قصته ويتخير أبطاله ويرسمهم بريشة المصور الفنان. فهو يدع (سقراط) المتهم البريء الذي يرقب الإعدام بين عشية أو ضحاها، والحي الذي يسعى إلى الموت في خطى حثيثة رزينة راغباً لا راهباً ومختاراً أو شبه مختار، يتحدث عن خلود الروح في آخر يوم من أيام حياته فما أجل المحدث وما أنسب الظرف وما أروع الحديث! ولسقراط سنة معهودة في حواره من استيلاء على نفوس محاوريه وإرشاد إلى سبل القول وهداية إلى مواطن الضعف وافتنان في وسائل الإثبات. وتكاد ترجع برهنته على الخلود إلى نقط ثلاث: برهان التضاد وبرهان المشابهة ثم برهان المشاركة. فنحن نلاحظ أولا أن الشيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده، وأن الأكبر يتولد عن الأصغر والأحسن عن الأسوأ؛ فهناك تبادل دائم بين الأضداد. ومادام الموت والحياة ضدين فهما متعاقبان. وقديما قالت الأرفيه والفيناغورية بالتناسخ وتداول الأجيال البشرية! وبهذا يخرج الحي من الميت كما يخرج الميت من الحي، وتبقى النفس رحالة متنقلة من

<<  <  ج:
ص:  >  >>