جسد إلى جسد دون أن يطرأ عليها عدم أو فناء. ونسلم ثانيا مع أفلاطون أن النفس تدرك المثل والحقائق العامة الأزلية الباقية! والشبيه وحده هو الذي يدرك الشبه. فلابد أن يكون للنفس ما للمثل من ثبوت وبقاء. وأخيراً لنفس مشاركة للحياة بذاتها ومنافية للموت بطبعها، فهي بحسب مدلولها وحقيقتها حياة. ولا يمكن أن يجتمع في ماهية واحدة ضدان! فالنفس حياة فقط ولا تقبل الموت بحال، وأني لأتساءل بعد كل هذا هل وفق أفلاطون في برهنته؟ إذا اختبرنا أدلته لم نتردد في أن نجيب بالسلب، فإن فكرة صدور الصد عن ضده مرفوضة من أساسها، ونظرية التناسخ واضح بطلانها. ولا نظن أن أحدا يسلم اليوم مع الإغريق أن الإنسان لا يدرك إلا ما يشابهه. فإنا لو قبلنا هذا لوقفنا بالمعلومات الإنسانية عند دائرة ضيقة، ولم يبق بين علماء الحياة من يقول بذلك المذهب النفسي القديم الذي كان يعد النفس في آن واحد مصدر الحياة والحركة والإحساس والتفكير. على أن أفلاطون نفسه كان على بينة من حرج موقفه وخطورة مهمته وضعف حجته، فأنه يصرح على لسان سمباسي أن العلم بحقيقة الخلود ممتنع أو جد عسير في هذه الحياة. وجدير ببحث كهذا أن يوضع في قالب القصة وكفى، لا أن يصاغ بصيغة الأقيسة والبراهين
وسواء أوفق أفلاطون في برهنته أم لا فإنه قد سن سنة استمسك بها من جاء بعده، أو نهج نهجا حبب إلى الخلف السير فيه، فأنزل الخلود من السماء إلى الأرض، وأحل فيه منطق العقول محل همس الضمائر والقلوب. وكان من أكبر فلاسفة القرون الوسطى تأثرا به في هذا الصدد ابن سينا الذي قد يردد بعض أدلته أحيانا أو يؤيدها ويدعهما أحيانا أخرى، لاسيما وقد توفر لديه ما لم يتوفر لدى أستاذه! فقد وقف على الوحي الإلهي الذي صير الخلود عقيدة بعد أن كان مجرد أمل ورجاء، وسمع لغة القرآن الصريحة في الحشر والنشر والبعث والقيامة، فرأى لزاما عليه أن يربط هذه التعاليم الدينية بالبراهين الفلسفية، وفي خيال حلو هو أشبه ما يكون بخيال أفلاطون يقص علينا قصة هبوط الروح من عالمها العلوي ومقامها في هذا العالم الفاني ثم عودتها إلى بحر اللانهاية حيث الأبدية والخلود
هبطت إليك من المحل الأرفع ... ورقاء ذات تعزز وتمنع
محجوبة عن كل مقلة ناظر ... وهي التي سفرت ولم تتبرقع
وصلت على كره إليك وربما ... كرهت فراقك وهي ذات توجع