من قطعه للأرزاق وتهديده للأسواق التي يعمرها الحاج ويستفيد منها الغادون إلى مكة والرائحون منها. فهاهو ذا محمد نفسه يأخذ معه المسلمين إلى مكة كما يأخذ معه من شاء مصاحبته من غير المسلمين قصاد البيت الحرام، فإذا حال بينهم حائل وبين ما يقصدون إليه فتلك جنايته وذلك وزره على نفسه وعلى قومه، ولا وزر فيما أصاب الأرزاق أو أصاب الأسواق على المسلمين
وقد سمعنا كثيراً في العصور الحديثة عن المقاومة السلمية أو المقاومة التي تجتنب العنف ولا تعتمد على غير الحق والحجة.
سمعنا بها في حركة الهندية التي قام على رأسها غاندي وتابعه فيها بعض مريديه، حتى كان لها من الأثر في إزعاج الحكومة البريطانية ما لم يكن للقنابل ولا للمشاغبات الدامية
وقيل يومئذ أن غاندي قد تتلمذ في هذه الحركة للمصلح الروسي الكبير ليون تولستوي. وقيل بل هو أحرى أن يعرفها من آداب البرهميين والبوذيين التي تحرم إيذاء الحيوان فضلاً عن الإنسان قبل أن يشرع ليون تولستوي مذهبه الجديد
والذين قالوا بهذا الرأي الأخير استبعدوا أن يتفق المسلمون والبرهميون والبوذيين على حركة غاندي وتبشيره بتلك المقاومة السلبية لاعتقادهم أن الإسلام قد شرع القتال فلا يوائم المسلمين ما يوائم البوذيين والبرهميين من اجتناب القوة والتزام السلم وترك المقاومة.
لكن المثل الذي قدمه النبي صلوات الله عليه في رحلة الحديبية ينقض ما توهموه ويبين لهم أن الإسلام قد أخذ من كل وسيلة من وسائل نشر الدعوة بنصيب يجري في حينه مع مناسباته وأسبابه، فلا هو يركن إلى السيف وحده ولا إلى السلم وحده، ولكنه يضع كليهما حيث يوضع، ويدفع بكليهما حيث ينبغي أن يدفع، وهو الحكم المتصرف حيث يختار ما يختار، وليس بالآلة التي يسوقها السلم أو الحرب مساق الاضطرار
وقد خرج النبي إلى مكة في رحلة الحديبية حاجاً لا غازياً يقول ذلك ويكرره ويقيم الشواهد عليه لمن سأله، ويثبت نية السلم بالتجرد من السلاح إلا ما يؤذن به لغير المقاتلين
فلم يفصل بهذه الخطة بين العرب وقريش وحسب، بل فصل بين قريش ومن معهم من الأحابيش، وجعل الزعماء وذوي الرأي يختلفون فيما بينهم على ما يسلكون من مسلك في دفعه أو قبوله أو مهادنته، وهو عليه السلام يكرر الوصاة لأتباعه بالمسالمة والصبر منعاً