واضطربت الحياة، وانتشرت الحال، واستحكمت الازمة، فألحف الدائن في الطلب، وأعنف الصراف في التحصيل، وأسرف البنك في الحجز، حتى انتقص لهم من قوُته، واقتطع لهم من ثوبه، ونزل لهم عن جهده، ولم يغن كل ذلك شيئاً عن بيع ملكه!
تبدلت القرية غير القرية، فلا ليلى تطمح في زينة، ولا أخوها يطمح إلى زواج، ولا أبوهما يفكر في حج! وأصبحت الطريق الذاهبة إلى المدينة تجئ بالمرابي والصراف والمحضر، بعد أن كانت تجئ بالشاعر والزامر والمغني، وغاضت بشاشة العيش في وجوه الشباب فعادت القرية جديبة كالقفر، كئيبة كالقبر، لا يعقد فيها اجتماع لأنس، ولا يقام بها احتفال لعرس! وما أبعد هاتين الكلمتين اليوم عن قوم ندر عندهم الكبريت (الأصفر) حتى اتخذوا الزناد، وغلا عليهم التبغ حتى اشترك ثلاثة في سكارة!!
لا تزال القرية كما كانت في القرون الخوالي أكواخا متلاصقة من الطين غرقى في المناقع والدِّمن، لا تبصر الشمس، ولا تنشق الهواء، ولا تعرف النظافة، تكومت في قاعها أرواث البهائم وزرق الدجاج، وتراكم على سطحها حطب الوقود وعلف الماشية، وتقاسم الإنسان والحيوان المضاجع في هذه الحظائر المشتركة! ثم راض الفلاح نفسه مرغماً على الطعام الوخيم والشراب الكدر والملبس الرث والقناعة المزرية، حتى مات في حسه إدراك الجمال، وتفه في ذوقه طعم الوجود!
ذلك والعواصم المصرية تعيش في القرن العشرين تأخذ بمدنيته، وتقبس من نوره، وتنعم برفاهه، كأن الصلة بين القرية والمدينة هي الصلة التي كانت بين العبد والسيد، يملك ولكن ملكه لمولاه، وينتج ولكن إنتاجه لسواه!!
تغلغلت المدينة في الأمم الأوربية حتى انتظمت قمم الجبال وبطون الأودية وأطراف السهوب، وسوَّت بين بنيها في مُتَع العيش وحقوق الإنسان، ثم تشوفت إلى الآفاق الغائمة في الشرق تريد أن تهديها طريق الحضارة، ونحن لا نزال قاصرين عن إنقاذ قرانا من الجهل والمرض والفاقة، وهي مصادر القوة وموارد الإنتاج تعول الموظفين بالضرائب، وتغذي الجيش بالجنود، وتمد الحواضر بالأرزاق، وتعين الأحزاب بالمال، وتقيم (الحفلات) بالتبرع إن الفلاح المسكين الساذج يسمع بالوزارات تسقط وتقوم، وبالأحزاب تختصم وتحتكم، وبالمجالس تنتثر وتنتظم، وبالدواوين تفتح وتغلق، وبالأموال تجرى وتنفق،