ثم اندفعت المرأة في طريقها تهرول وتدمدم كأنما تريد أن تنجو بنفسها عن موطن الشبهة!
ووقف عليها على الوليد المنبوذ كل سائر. وكان كل واقف يشعل ثقاباً وينظر إلى محيا الطفل البريء ثم يحوقل وينصرف.
وكان الطفل على ما فهمت من وصف الواصفين (الواصفين من الواقفين أزهر اللون جميل الصورة قد وضعته أمه (الحنون) في قفة جديدة من الخوص ملفوفاً في خرقة بالية من قماش مهلهل النسج لا نقش عليه ولا خيط فيه! ولعلها خشيت، إذا هي ألبسته بعض الثياب أن يستدل الشُّرط بها عليها! والاحتياط لسلامة الخدر المصون من سوء السماع ومض الملام فوق كل اعتبار!!
كان المارة يتجمعون على جوانب المهد الخشن والطفل يضطرب فيه بيديه ورجليه، ثم يتفرقون ولا يجرؤ أحد منهم أن يسبل غطاءه عليه، أو يمد يده إليه، كأنما هو في ذاته لعنة مجسدة تغلق بمن يمسها وتلحق بمن يقربها! والواقع أن اللقطاء أو أبناء السكك والدهاليز كما يسميهم الشرفاء، أشقياء بالولادة. وقد تشتمل الرحم الفاجرة على الشقي والشقاء في وقت معاً. فاللقيط وهو جنين يكون خطراً لا ينفك مهدداً بالعار إذا استمسك، وبالموت إذا سقط. فإذا سلم على طعن البطن باليد، وتسميم الرحم بالعقاقير، وُلد في الخفاء، وغمر بالظلام، وأحيط بالسكون، وأصبح في حجر أمه جريمة مولودة تطفئ نور البصر، وتذوي شباب القلب، وتقطع خيط الرجاء، فتحاول أن تتنصل من هذه الجريمة الواحدة، باقتراف جرائم متعددة! فإذا على سوء الولادة وجفاء المهد وقسوة الهجر، عاش موسوماً بالخزي، موصوفاً بالمهانة، لا يرتفع به بيت، ولا يشرف به منصب
يا حسرتا على اللقيط من بني آدم! يمر الإنسان بالمتروك أو الضال من جِرَاء الكلبة، أو خنانيص الخنزيرة، أو حملان النعجة، أو فراريج الدجاجة، فيؤويه إليه حتى يجد صاحبه؛ ثم يمر بالمتروك من جنسه فيشيح بوجهه وينأى بجانبه؛ لأنه إذا ضمه إليه اتهمته زوجه، وإذا أظهر العطف عليه اتهمه الناس. ومن ينكره أهله لا يعرفه أحد! ومن ضاق ذرعه بابنه لا يتسع صدره لمتبنّاه، لذلك كان الناس يمرون بالقفة المتروكة، وفيها ثمرة الحب يتضور ويبكي، فلا يجودون عليه لا بنظرة حنان، أو كلمة رثاء، أو إشارة إعجاب، أو لعنة انتقام. وخفت أن يبيت الطفل على قارعة الطريق فدعوت من حمله إلى مركز البوليس.