للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

جسده فلا صوت ولا حركة! وذهب الرافعي ذو اللسان الجبار والذكر الدوار والأثر المنتشر، ذهاب الحباب كأنه لم يملأ مسامع الدهر، ولم يشغل مدارك الناس زهاء أربعين سنة!

كان آباء الرافعي شيوخ الحنفية في مصر، تولوا قضاءها وإفتاءها وإقراءها حقبة طويلة من الدهر؛ فدرج هذا الناشئ الصالح في حجور أربعين قاضيا من قضاة الشريعة كانوا من أهل بيته، وقد نوه بهم اللورد كرومر في بعض تقاريره. وكان أبوه الشيخ عبد الرازق الرافعي قد جرى على أعراق هذه الأسرة الكريمة من ورع القلب وصحة الدين وسلامة الضمير؛ ثم تميز في قضائه بمرارة الحق وصلابة الرأي وثبات العقيدة، فجاء مصطفى في كل ذلك صورة أسرته وسر أبيه

لم يذهب الرافعي إلى الأزهر، فقد كان في أزهر من قومه؛ وإنما نشأ في مغداي ومراحي بين طلخا والمنصورة أفندياً يتلقى معارفه الأولى بمدرسة الفرير، ويتخرج في علوم اللسان والشريعة على أبيه، حتى حذق العربية وفقه الدين وثقف الأدب وأصبح فارسا في الحلبتين ولما يعد العشرين. فلما بلغ ربيع العمر ختم الله على سمعه بالصمم الشديد، فكان منذ شبابه الأول بنجوة من لغو الناس ولغط المجتمع، فسلم عقله من السخف، وبرئ ذوقه من التبذل؛ وعاش في عالم الخيال ودنيا الكتب، فاتسع أفق تفكيره، وارتفع مقياس فنه. وظلت طبيعته البشرية على الكهولة نقية حرة كطبيعة الفتى الشابل، فيها الغضب الحاد، والرضى الهش، والدلال المتعظم، والهوى الجموح، والفتوة الأبية. فهو يخلص في الحب ويصدق في البغض، فلا يداور ولا يداري، ولا يحقد ولا يحسد

عملت في الرافعي عوامل الوراثة والبيئة والدراسة والعاهة؛ واتفق له من كل أولئك ما لم يتفق لغيره، فكان أفقه العلماء في دينه وأعلم الأدباء بلغته، وواحد الآحاد في فنه. والدين واللغة والأدب هي عناصر شخصيته وروافد عقليته وطوابع وجوده. لذلك كان يقظ الرأي شاهد الحس لما يعلق بثلاثتها من أباطيل وشبه. وعبقريات المصطفى إنماكانت تتنزل على قلمه المرسل حين تمتد الأفيكة إلى كتاب الله أو إلى لغة العرب أو إلى أدب الرافعي

الرافعي أمة وحده لها وجودها المستقل وعالمها المنفرد ومزاحها الخاص وأكثر الذين كرهوه هم الذين جهلوه: كرهه الأدباء لأنه أصحر لهم بالخصومة فانفرجت الحال بينهم

<<  <  ج:
ص:  >  >>