وكثيراً ما كنت استحضر فكرة ما - في موضوع الساعة، لأحدثه بها، فأتعقب ما لا أرى ببصري في الأرض وفي السماء. فكان يهز رأسه ويقول: قيد ما يحضرك. فإنه يقرها ساكنة، حتى تطلبها فتجدها في مكانها (مقيدة)!
ورغم ذلك فقد كان رحمه الله على قوة في الإرادة، ونفاذ في البصر، ويقظة في الشعور، إلى درجة تريح نفسه من العمل بهذه النصيحة. فكان أبدا على ثقة من العثور على (الفكرة) أو قل من (اصطيادها) أسمن وأغنى مما كانت حين سنحت له وخلاها. . .
في ظل هذه (الشجرة) وهي كالمرصد للفلكي، والمعمل للكيميائي، جعل الشاعر (يصطاد) عناصر حكمته الاجتماعية، ويتأمل في هذا النبع الفياض، من نفسه ومن الحياة ويشعر به شعوراً قوياً جياشاً، ثم يسوق تأمله وشعوره في حكمة هي الشعر، وفي شعر هو الحكمة، فيتقدم على كثير من الشعراء - أمام الناس جميعاً، حكيماً اجتماعياً يضع إصبعه على أخطر الأدواء، ويصف بالساحر من بيانه أنجع الدواء. . .
وما أريد أن أعود بالقراء إلى يومه الأول لأعرض عليهم فنون حكمته فيه. فلذلك مكانه من الكتاب إن شاء الله. وإنما أريد أن أعرض عليهم أبياتاً من قصيدة حديثه، هي قصيدة العصر، أو هي آلامه وآماله. .
وسبب هذه القصيدة - ومعذرة إلى القراء - مناظرة على صفحات (البلاغ) الأغر في حياة صاحبها المغفور له عبد القادر حمزة باشا رحمات الله ورضوانه - بيني وبين صديقي الأستاذ محمد السوادي في (العبقري) في الثراء، والزواج، والحب) من هو العبقري، وما شأنه؟ قلت يوم ذاك إنه رجل طليق، في الثراء والزواج والحب والحياة كلها. . . أو إنه بشر فوق البشر. . .
ورمى الشاعر ببصره فماذا وجد؟ وجد الوسط الأدبي في مصر يزخر بطوائف من المخبولين والممرورين والحالمين. . . هذا يستنشق الأثير، وثان يكرع الخمر الرخيص، وثالث يتعاطى الأفيون، ورابع يدخن الحشيش، وخامس يتمرغ في أوحال الرذيلة، وسادس وسابع. باسم العبقرية، أو وراء (أشباح العبقرية) كما يسميها جورج دهامل يجري كل هؤلاء المرضى والضعفاء. ولم يقل أحد إن العبقرية صحة، وصحيح - كما يقول المدافع عن الأدب - أن هذه السموم تولد عند آلاف البؤساء شعوراً ذاتياً بالعبقرية، ولكنها لم تهب