على أنني أتذكر ان شهرتنا الصغيرة وثروتنا التي كانت تمهد لنا السبيل إلى رغباتنا والإعجاب الشديد الذي كان يظهره رفاقنا بنا، كل ذلك لم يكن ليروي ظمأ نفوسنا الصادية، ولا ليطفئ حرارة قلوبنا المتأججة. وكنا إذا ما انفردنا بأنفسنا نتشاكى ما يجول في خواطرنا من رغبات، وما يختلج في ضمائرنا من نزعات: فلطالما كنا نحتقر محيطنا وبيئتنا، ونشمئز من عالمنا وإقليمنا، فكانت ضالتنا المنشودة، أوربا. . . .
وكنا حين نسير في الشوارع، إذا تطاير إلى أثوابنا الوحل، أو تناثر على أحذيتنا الغبار، اشمأزت نفوسنا، واكفهرت وجوهنا، وزفرنا زفرة وصحنا:(هل يستطيع الإنسان ان يعيش في هذه البلاد؟!)
وأخيراً ذهبت أنت إلى روما، وأنا إلى باريس. ولكن يخيل إليّ ان تلك الرسائل التي كنت ترسلها إلي من روما، وأرسلها اليك من باريس، كانت مملوءة بنفس الشكاوي، مغمورة بعين الأحزان. فكنت تقول:(ان مظاهر الصنعة الباهرة، ومشاهد الفن الساحرة، لا تكفي لترويح روحي المعذبة، وتسكين نفسي المضطربة، وبالرغم من وجودي بين الجدران، وتحت السقوف التي زيَّنها (ميخائيل آنجلو) و (رفائيل) بريشتهما البديعة، فإنني منقبض النفس ولهان، مشرَّد الفكر حيّْران وان ذلك السجين الذي يحبس في الأقبية الضيقة ذات الهواء الفاسد، والحلك الدامس، لا يعرف معنى القسوة والشدة، مثلما أعرف فما الذي أريد، وعما أبحث؟. . .)
هكذا كنت تقول، وكنت أجيبك:(أجدني في هذه المدينة الكبرى وحيدا، أرجو السلوان فلا أجده، والتمس العزاء فلا ألقاه. فمن أنا بين هذه الجموع الغفيرة، ومن يدري بي؟ فان الجنون والخبال كادا يخالطاني لولا كتبي التي كانت تعيد إلى نفسي الأمل والتفاؤل بين الفينة والفينة!)
لم يمضِ زمن طويل حتى عدنا أدراجنا إلى الأستانة، فكنت أنت قد سئمت الرسم، وكنت أنا قد تركت الشعر.
فكنت أقول:(قد قيل كل شيء، وشعر بكل شيء، فما الفائدة من ترديد الأقوال التي مجتها الاذواق، وتكرير الاحساسات التي نفرت منها الأسماع؟؟)
وكنت تقول:(ما الذي يرسمه الإنسان ويصنعه، بعد ان رأى جدران كنيسة (سيكستين)