أما (برطباط) هذه فمن أقل البلاد حضارة، وأنآها قربة من مركز مغاغة مديرية المنيا - غربي بحر يوسف! وهذا مظهر أرقي للوفاء؛ ودليل قاطع على النسبية والشخصية في النظرة والحكم.
حدث سنة ١٨٧٠ وقبيل سقوط باريس أن جمع الأديب مما طبع من القطع التمثيلية ودواوين الشعر مما يرضي ذوقه. وأنفق أكثر ما كسب من مال في تجليدها تجليداً فنياً رائعاً، ووفق إلى دار صغيرة في الضواحي حيث رتبها، كما نسق سكناه تنسيقاً أنيقاً، وما كاد يفرغ من كل ذلك حتى فاجأه الحرس الوطني يطلب إليه الرحيل لاقتراب جيوش الألمان! ذعر الشاب وقد حددوا له أسبوعاً قال إن هذه الفترة قد لا تكفي لمجرد البحث! وفي اليوم التالي جاء الحرس مرة أخرى يحدد له أربعاً وعشرين ساعة!! شده الرجل فودع بيته وما حوى. وفي حقيبة صغيرة وضع ما يحتاج إليه وآوى إلى أول فندق ثم أصبح وهو في الدار الآخرة! - أسلم روحه بعيد أن أسلم ماله في هذه الدنيا!!
وبقدر وفاء شاعرنا الفقيد كان ألمه لما يلقى من نكران أو يلمس من جحود، فيقول في قصيدته الطويلة تلك:
غاض الوفاء فلست ألقى صاحباً ... إلا بغير فضيلة ووفاء
ولكنه مؤمن تقي. نشأ في بيئة تقوى. كان أبوه من أعلام المروءة وأهل الرأي في بلده. فتسمعه في أواخرها يقول:
ولقد شفى نفسي وأصغر همها ... أن كل شيء صادر بقضاء
فهو يثور قضاء لحق المروءة عليه وترجمة لوفائه، ثم يعود ملتمساً عذراً في السكون من إنسان وحادث، ولما تمر به الدنيا أو يمر بها من تفاعل، يرجع بهذا إلى شيمة الرضى وهي وليدة التسليم لمبدع الكون وما قسم من حظوظ.