مررت مع صديقي أحمد الأزهري ذلك العام ذاته سنة ١٩٤٦ بحقل للقطن استلفت منا النظر، فشجراته تستطيل على ما في الحقول المجاورة، وعهدنا بمعدن الأرض واحداً! واسترعى الانتباه منا قلة ما يحمل من ثمرات بينما تلك القصار تنوء بما حملت، وتساءلت فعرفنا أن الأول تجربة للقطن (السكلاريدس) وأما باقي الحقول فمن القطن (الأشموني) قلت أيها الصديق. . أما نذكر أقرب ما يتمثل به هاهنا؟ ولعله أقرب كذلك إلى البر. . قال ما تذكر؟
قلت ذلك قول صديقنا الفقيد (أحمد توفيق):
إن راح قوم للسماء بحظهم ... فالحظ أسبق ما يكون ورائي
لا غرو أن نال اللئيم مكانة ... ما نالها ذو حكمة وذكاء
فالغصن ينمو وهو خلو من جنى ... وتراه يثمر عن قليل نماء
ألا ترى في هذين الحقلين المتجاورين بل المتلاحقين وما بينهما من فارق. مسرحاً تتمثل فيه هذه المحكمة. وتمثل فيه هذه الرواية؟!
ذكرت هذه الأبيات مرة على مسمع فقيد العربية الشاعر الخالد أحمد شوقي بك منذ ربع قرن وكنا نسير على شاطئ البحر بكازينو سان أستفانو فوقف يستعيدها ويستفسر عن قائلها، وقد أعجب بالمعنى وترحم على (أحمد توفيق) حين علم أنه أرتحل عن دنيانا باكراً.
وكذلك كان حظها من تقدير الصديق الأديب واصف غالي باشا وهو حجة في الذوق - سمعها بين أفياء (لؤلؤة البحيرة) وهو المتنزه المشهور في جنيف.
فلم أنس الصديق الراحل على شاطئ بحر أو بحيرة، في بستان أو في حقل، ولم تفارقني ذكراه في صحة ولا علة، بين كروب أو في سرور، ولكني حقاً نسيت وصاته سنين فلم أنشر فضله ولا أعلنت عهده حتى ذكرني صديق كريم على شاطئ البحر في بور سعيد سنة ٤٣، ثم طوت المحن صحيفة الازدهار من الذاكرة حتى نشرها فبعثت بأول البحث إلى صديقي وأستاذي صاحب الرسالة وهو عندي أرعى الناس لعهد وأبر الأدباء بالبر وأكبر الإخوان عوناً على خير.
ولعل خير ما أكرم الله به الذكرى أن جعل (الرسالة) رسالة الظهر والخلق المتين - مظهراً لها، كما كان لقرائها الأكرمين تقدير ما راقهم وغض الطرف عما بها من قصور.