للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

الأسعار، ولا تمنعان الأساتيذ أن يكونوا كالتجار.

وعى عبد المؤمن أفندي بهذا الحساب، وأحس بالبرد قد وصل إلى عظامه، فازدادت نقمته على الوظيفة وعلى الحياة وعلى نفسه. وعظم سخطه حين سمع صوت سيارة. . . من هذا المأفون الذي يمر الليلة على الطريق، فيزعجه من فراشه ليخرج فيفتشه؟ إنها سيارة مهربين من غير شك، ولابد له من ضبطها لئلا يخون أمانته التي يأكل من ورائها الخبز. ثم عاد فتذكر أن الخبز الأبيض القفار لم يستطع أن يأكله من وراء هذه الوظيفة، فحمل مصباحه البترولي وخرج وهو ساخط على كل شيء. فلما فتح الباب، هبت عليه عاصفة مثلجة كاد تقتلعه من أرضه، ولكنه استند إلى الجدار وقفز إلى الطريق، فأقفله بالحواجز الحديدية قبل أن تصل السيارة. . . وصفر لها بصفارته، فضاع صوتها في هزيم الرياح؛ بيد أن السيارة كانت قد وصلت ورأى من فيها المصباح الخافت، فوقفت، فنظر عبد المؤمن أفندي فلم يجد فيها إلا السائق، ووجدها من سيارات الشحن الكبار، وكانت عادته التي يعرفونها عنه أنه يقوم بالواجب عليه على الوجه الأكمل، ولم يمد يده في عمره إلى حرام، ولكن هذا البرد، وما في نفسه من السخط والضيق عدلا به عن عادته، فاكتفى بإدخال السائق إلى المخفر ليسأله. . . وأغلق وراءه الباب، وأعد مسدسه خوفاً من أن تطمع وحدته السائق وتغريه به، وكان عبد المؤمن أفندي رجلاً جلداً جريئاً حذراً، وكانت قد تراءت على وجهه ظلال نقمته التي كان يحسها، فبدا مخيفاً مروعاً.

ونظر إلى السائق فإذا هو أحد المهربين المعروفين الذين يقودون القوافل بين عمان ودمشق عن طريق البادية، وربما بلغت أثمان ما في السيارة الواحدة منها مائة ألف ليرة. . . فهز رأسه، وأزمع أن يضربه الضربة القاضية، فما يعقل أن يأخذ السائق أجرة السفرة الواحدة عشرين ألف ليرة، ويعطى مثلها رشوة لرجال الأمن على الطريق، ثم يأكل التاجر الباقي، يسحبه من أفواه المساكين والفقراء. . . ويبقى هو الموظف المسكين على مائة ليرة كل شهر، وقال له:

- أوراقك، والبيان المصدق بما معك في السيارة. ثم إن عليك أن تنتظر ريثما تهدأ العاصفة ويطلع النهار لنتمكن من تفتيشها فإذا كان فيها مهرب، صودرت السيارة وما فيها!

قال السائق: أتحب الصدق؟

<<  <  ج:
ص:  >  >>