قال: وهل تعدني أن نتفاهم بهدوء، ومن غير لجوء إلى الشدة، أو اقتراب من الهاتف (التليفون)؟
قال عبد المؤمن أفندي مستغرباً: وما ذاك؟
- قال: إن في هذه السيارة بضاعة مهربة، هي لفلان، وهو من تعلم مكانته وصلته بالنواب والحاكمين، وله فيها شريك لو سميته لك لأرعبك أسمه، وإذا أنت حجزتها، أطلقها هو، وأبت بسواد الوجه، وربما نقلك إلى الجزيرة. . .
- فصاح به: أسكت. . وقح! أتهددني؟ سترى كيف أفتشها وأحجزها، وأذهب فأعمل ما تستطيعه. إن القانون يمشي على الكبير والصغير. . .
- قال الرجل بهدوء: لقد وصفتني بالوقاحة، وإني أسامحك. إني أتكلم بلسان الواقع، وأنا أحب أن نتفاهم على مهل. إنك رجل أمين شريف، وأنا تقديراً لأمانتك أهدي إليك هدية، قد فوضني صاحب البضاعة بتقديمها إليك، تغنيك عن هذا المرتب.
فغضب وقال: أتعرض علي الرشوة؟ الآن أكتب ضبطاً بالحادث، وأريك ما جزاء من. . .
فوالى السائق كلامه وكأنه لم يسمع شيئاً فقال: وهذه الهدية هي عشرة آلاف ليرة. . .
فلما سمع بها عبد المؤمن أفندي تراخى، ورأى السائق ذلك منه، فقال:
وألف فوقها مني لتدعني أمر الآن، فهذا آخر مخفر قبل دمشق، وأنا أود أن أدخلها في هذه العاصفة كيلا يعرض لنا أحد، وإذا أنا وقِّفت فلن أخبر مخلوقاً بما كان بيننا، بل أقول أني قادم من طريق آخر. . .
لبث عبد المؤمن أفندي لحظة واجماً، ولكن فكره كان يدور كما تدور عجلة (الاكسبرس)، لا يستقر على فكرة حتى ينتقل عنها إلى غيرها. وكان ماضيه الشريف، والمستقبل الذي أطل الآن عليه يتقاذفانه. فكأنه بينهما كراكب الأرجوحة، لا يبلغ طرفاً حتى يكر مسرعاً إلى الطرف الآخر. وكان صوت ضميره يهتف به أن: دعها ولا تدنس نفسك بها، فإنها سحت، ونفسه تناديه أن خذها ووسع بها على عيالك، وعلم بها ولدك. . . ولبث كذلك وهو يسمع من داخله مثل دقات عقرب الثواني في الساعة: خذ، لا تأخذ. خذ. لا تأخذ. إلى ما لا نهاية له. . .