القلب من مكان إلى مكان وما أقسى الصحوة من غفوة العقل! وماأشقى العقلاء! لو كانت أرادت ما أريد فأطالت في غوايتي لعرفتها أكثر مما عرفت، لأن المحب المفتون يتغلغل إلى السرائر، وإن اتهم بالغفلة والجمق، ولأن العاشق الجاهل قد يرى المحاسن قبل أن يرى العيوب، والتثقيف الصحيح هو الذي يروضك على النظر في المحاسن قبل النظر في العيوب، ولو قويت جوارحنا حق القوة لأنسنا بجميع الوجوه وجميع الأشياء، ولكننا مع الأسف نتلقى دروس الحياة عن المعلولين والضعفاء، والتلميذ صورة الأستاذ في أكثر الأحايين كانت لي غاية من الهتاف بالحب، والهيام بالجمال، فما هي تلك الغاية؟ كنت أرجو الطب للنفوس العليلة التي لا تستريح إلا إلى شكوى الزمان كنت أسمو إلى خلق البشاشة والأريحية في صدور هذا الجيل كنت أحارب النزعة الأثيمة التي تقتل الأرواح والقلوب باسم الوقار والعقل هل سمعتم بقصة الشيخ خليل؟ هو رجل من علماء المالكية كان يفتخر بأنه لم يخرج من الأزهر مرة واحدة ليرى النيل، ولهذا الشيخ أحفاد وأسباط في العقلية، وأولئك الأحفاد والأسباط هم السوس الذي ينهش عظام الأخلاق - إن صحت هذه العبارة المجازية - فأخطر الآفات أن تصدر النصيحة عن رجل خمد فعقل، لأن الناس يسمونه بالعقل ولا يسمونه بالخمود، وكذلك يتلقون عنه درس الموت وهم يتوهمون أنه يدعوهم إلى مزاحمة الأحياء إلى متى الصبر على هذا الفهم السقيم لمعنى الأخلاق؟ ومتى ندرك أن الخلق من صور الحركة، وليس من صور الركود؟ الخلق جارحة من الجوارح، وما سميت الجوارح جوارح إلا لقدرتها على السيطرة والامتلاك، فالعين التي لا تجرح ليست عينا طبيعية، وإنما هي عين صناعية، إلى آخر القول في وظائف الأعضاء، أو منافع الأعضاء، كما كان يعبر الأقدمون ولكن من الذي يسمح بعد هذا الكلام دعوة إلى الخلق الصحيح؟ وكيف يعيش المتوقرون والمتزمتون إذا استمع الناس لمن يقول بأن الابتسام للحياة من شواهدالعافية الأخلاقية؟ إن الشرق مبتلى بالانحراف في فهم الأخلاق، فهي عنده سلب لا إيجاب، وهو يفكر فيما يترك قبل أن يفكر فيما يصنع، والنواهي والزواجر هي عنده الهدف الأول حين يتسامى إلى الاتسام بكرائم الحلال فما أصل هذا الإنحراف في فهم الأخلاق؟ لعل هذا الإنحراف يرجع إلى المعلمين، وكان التعليم مهنة مقصورة على الرهبان وأمثال الرهبان. فالخلق في أذهانهم هو انحسار واحتجاز وانقباض،