ومن هنا يؤخذ المعلم بقيود لا يؤخذ بها غيره من طبقات المجتمع، لأن الرهبانية مفروضة عليه وأن لم يخطر في باله أنه مشدود إلى حظيرة الرهبانية. هو يحمل أعباء ميراث ثقيل من التبعات والتكاليف، ميراث يرجع إلى العهد السحيق يوم كان الناس يتوهمون أن كلمة الخير لاتجيء إلا من مصدر مجهول، ويوم كانسدنة الهياكل ينتفعون بهذه الغفلة العقلية فيتحدثون من وراء حجاب باسم السماء، وما تكلمت السماء، وإنما تكلم ناس مبرقعون خلقوا من الوحل لا من الطين! وبفضل تلك العقلية أنكر قوم أن تكون النبوة من حظ رجل يأكل الطعام ويمشي في الأسواق، وهي عقلية باقية إلى اليوم، وإن زعمناس أنهم سلموا من دائها الوبيل لقد كثر المؤلفون في الأخلاق، فماذا صنعوا؟ هل غيروا ما بنفس الأمة من الفهم المنحرف لمعنى الحياة؟ هل راضوها على التخلق بأخلاق العصر، ولكل عصر أخلاق؟ هل استجابوا لدعوة العزةالروحية والعقلية فخلقوا الشوق إلى مسايرة ما في الآفاق العالمية من الصيال بين الأرواح، والصراع بين العقول؟ علم الأخلاق يدرس منذ أعوام طوال في معاهدنا العالية، فأين محصول تلك الدروس؟ كل ما وقع هو التلخيص لمشكلات أحسها بعض الأخلاقيين في الغرب، والأخلاق إحساس لا تلخيص، وفي الشرق مشكلات غير تلك المشكلات، لأن له أمراضا غير تلك الأمراض؛ ومن أمراض الشرق أن تجوز فيه الأستاذية الأخلاقية لناس لم يتمرسوا بمعضلات الوجود تلك خواطر ساقها ما وقعت فيه ليلة عيد الميلاد، فقد أخلفت موعدا لايخلفه الرجل إلا وهو مكروب، وهو موعد يذكر بإخوة له من قبل، يوم كنت مشبوب الصبوة في منادح باريس، عليها أطيب التحية وأجزل الثناء! وبماذا اعتذرت؟ قلت إني أحبر مقالا لإحدى المجلات، وهل يصعب الاختراع على من يعايش أبناء هذا الزمان؟! ومضيت وحدي أجوب الظلمات بعد إخلاف ذلك الميعاد، فراعني أن أجد في قلبي فراغا عميقا مخيفا يذكر بالفراغ المنصوص عليه في بعض الأحاديث، ففي الآثار أن الجاني قد يهوي في قاع جهنم سبعين خريفا، وكان قلبي كذلك، فلو هويت في أعماقه سبعين سنة لما وصلت إلى قرار مكين. وكيف وقد أعفيته من ثورة الوجد في ليلة عيد الميلاد، فلم يمس إلا وهو فضاء في فضاء، وتلك حال القلبالخالي من الأهل، والوجد أهل، ولكن أكثر الناس لايفقهون! ورجعت إلى داري بعد لحظات، وكان في نيتي أن أطوف بأرجاء القاهرة إلى نصف الليل، رجعت سليم القلب من الأسواء ولا يسلم