للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

القلب من الأسواء إلا وهو عليل، فالقلب كالطفل، لا يقبل على اللعب إلا في أوقات العافية، وإن جهل ذلك علماء الأخلاق وأردت أن أطب لقلبي فذكرته بما مر في العام الماضي من مكاره وعقابيل، ودعوته إلى النظر في قصة الصديق الذي كنت أشرب على ذكراه أكواب الدمع، وهو اليوم لا يذكرني حين يعاقر أكواب الصفاء. وذكرت قلبي بإحساني إليه حين جعلت له ماضيا في الصداقة والحب، فذلك الماضي وهو الأحجار التي بنينا بها وجودنا الصحيح، وجود القلب الخافق والروح العطوف، وهو الشاهد على أن حياتنا لم تخل من نوازع وأهواء، وأن لنا تاريخا في معاقرة الحقائق ومقارعة الأباطيل فهل وقع هذا المنطق من قلبي موقع القبول؟ إنه لم ينكر أنس الرجل بماضيه في الصداقة والحب، وإن زلزلت الأرض زلزالها فغيرت جميع المعالم من ذلك التاريخ ولكنه أنكر الاكتفاء بثروة الماضي، وإن امتلأبنمير الذكريات العذاب، فما كانت الذكريات إلا ومضة البرق لعين الساري الحيران، وهي ومضة تزيغ عينيه ولا تهديه، وهي ايضا تزيد حقده على ظلم الوجود وعمدت إلى القلم أثير به معركة أدبية، فقد كنت أعرف أن قلبي يكتحل بغبار المعارك التي يثيرها قلمي، فما نفع ذلك بشيء، وصاح القلب: هذه ليلة الميلاد، فأين الميلاد؛ أين الميلاد؟ وكيف؟ هل يجب أن أولد في هذه الليلة كما ولد المسيح؟ وهل أولد في كل سنة مرة، وما ولد المسيح إلا مرة؟! فأجاب القلب في حزم عنيف: يجب أن تولد من جديد في كل لحظة، لأن المقام على حال واحد يفسد مياه الأنهار، فكيف تراه يصنع بأفكار الرجال! _ولكن ليلة الميلاد قد ضاعت علي وعليك، ياقلبي! _إن ضاعت ليلة الميلاد فقد بقي يوم الميلاد وفي الصباح هتف الهاتف_وهو التليفون كما كان يسميه أهل لبنان_والهاتف روح لطيفة كانت بيني وبينها أشياء، وقد قدمت من بلد بعيد لتراني يوم الميلاد، فهتفت: ياقلبي يومي ويومك عيد!! وخرجنا معا، أنا وقلب، لاستقبال تلك الروح، وقد ولد الهوى من جديد، الهوى الذي ظلمناه باسم الوقار والعقل، وطال الحديث وطاب حول ما كنا عليه، وما صرنا إليه، ومن شرب من عيون تلك الظبية ما شربت لا يقول إنه رآها في يوم الميلاد، وإنما يقول إنه رآها في أبد الخلود! وعادت تلك الظبية إلى ضلالها القديم فأمرتني أن أكتب ما يجيش في صدري وأنا في حضرتها السامية، وهو امتحان أؤديه كلما التقينا، وحياتي كلها امتحانات! فامتشقت القلم وكتبت: باسم الله الذي أقسم بالقلم وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>