وهؤلاء غير من كانوا يفدون عليها من الدول الإسلامية شرقاً وغرباً وخاصة دولة بني بوية السياسة والحضارة الإسلامية في القرن الرابع
أما الثعالبي فإنه ولد بنيسابور ونشأ في بلاد المشرق حين كانت مسرحا للدول الفارسية الناشئة في ذلك العصر، وفي هذه البقعة من الأرض خالف الثعالبي في نشأته أعيان عصره حيث أخذ الأدب عن رغبة ملحة وميل شديد، فلم يحمل نفسه عليه حملاً أو يكرهها على صناعته كرها، بل كان ملهماً بطبعه وفطرته. وقد وهب إلى جانب ذلك قريحة وقادة وسجية مواتية، يدلك على ذلك أنه كان في أول أمره فراء يبيع فراء الثعالب في الأسواق. ولو كان من صناع الأدب ومتكلفي الشعر الذين يكرهون أنفسهم ويحملونها على علاج هذه الصناعة لصعب عليه أن يغير مجرى حياته على هذا النحو العجيب. وهو إلى جانب هذه الطبيعة المواتية يحمل بين جنبيه نفسا محسة وقلبا نابضا يطوع له صناعة الأدب ويفتح أمامه طريقاً سهلاً ميسوراً فيجد نفسه مشاركاً لأدباء عصره في إحساسهم مرتبطاً بعواطفهم حافظاً لأشعارهم ورسائلهم. ثم يأبى علية هذا الطبع السمح إلا أن يقوده إلى الكتابة الأدبية المنظمة عن بيئته التي عاش فيها، فيجد نفسه مرة أخرى حيال نزعة ملحة إلى تأريخ الحياة الأدبية خلال القرن الرابع كله، فيضع كتابه (يتيمة الدهر). ويخرج الكتاب صورة صادقة لهذه النفس في سهولتها وهذه العقلية في نظامها وهذه الحافظة في وعيها وهذه الثقافة في اتساعها.
أما الأصفهاني فيضع كتابه السالف في واحد وعشرين جزءاً وهو أضعاف مضاعفة لكتاب صاحبنا، سواء في مادته وأخباره. تراه يجمع فيه مادة وافرة من الشعر والغناء وأخبار الشعراء حتى أنه - كما يحدثنا أبو محمد المهلبي - وضعه خمسين سنة وأنه لم يستطع أن يكتبه إلا مرة واحدة في عمره. ويكفيه فخراً أن الصاحب بن عباد زعيم الشيعة وعميد الأدب العربي في النصف الثاني من القرن الرابع - يمدحه ويثني عليه، لما رآه من استقصائه للأخبار وجمعه لحكايات الشعراء حتى قال فيه:(ولقد اشتملت خزانتي على مائة ألف وسبعة عشر ألف مجلد ما فيها سميري غيره. ولقد عنيت بامتحانه في أخبار العرب وغيرهم فوجدت جميع ما يعزب عن أسماع من قرفه بذلك قد أورده العلماء في كتبهم، ففاز بالسبق في جمعه وحسن وضعه وتأليفه.)