وعلى الرغم مما أمتاز به الأصفهاني في جمع الأخبار واستقصائه إياها فإنه لم يأمن غائلة النقاد الذين جاءوا بعده: قال ياقوت. (وقد تأملت هذا الكتاب وعنيت به وطالعته مراراً وكتبت منه نسخة بخطي في عشر مجلدات ونقلت منه إلى كتابي الموسوم بأخبار الشعراء فأكثرت، وجمعت تراجمه فوجدته يعد بشئ ولا يفي به غير موضوع منه) وضرب الأمثال لذلك بحديثه عن أبي العتاهية وأبي نواس والأصوات المائلة في الغناء
وهنا يحق لنا أن نتساءل هل كان الأصفهاني في كتابه هذا يصور نفسه ويرسم إحساسه ومشاعره التي تربطه بأدباء عصره - كما فعل الثعالبي -؟ الجواب: لا. لم يكن كذلك فئ شيء لأنه كان يؤرخ لا أكثر. كتب الأصفهاني كثيراً ولكنه لم يكتب غير التاريخ الأدبي الصامت. وملأ أسفاراً ولكنها لا تعدو أن تكون أخبار الأولين والمعاصيرن من الشعراء. فهو أخباري من الطراز الأول، ومحدث مستطرد أمين بكل ما في كلمة المحدث من معنى. ولكنه لم يرسل نفسه على سجية الأدبي، فيذكر رأيه أو يبدي لناقده فيمن يخبرنا عنهم
ولعلك حين تستعرض طريقة العرض عند الرجلين تقف على صدق ما ندعيه - فأنت ترى الأصفهاني يتحدث عن الشاعر يصدر حديثه عنه بسلسلة طويلة من نسبه، يستطرد فيها ما شاء له الاستطراد، وقد يأتي فيها بالفريد المقبول وما كان يلذه السامعون في ذلك العصر حين كانوا يعون بالأنساب ويتفاخرون بها. ولكن الاستطراد به عند هذا الحديث الذي يرسله في حلقات النسب، فيتجاوز النسب إلى ما رواءه وينتقل بك إلى الحديث عن شخص آخر قد لا يربطه بالسابق إلا محض الاستطراد. وهو رباط شكلي بحت - وهنا يذكر لك أشعاراً وقصصاً وروايات تتعلق بالشخص الذي أدار الحديث حوله. حتى إذا ما انتهى به المطاف عاد إلى صاحبه الأول الذي ترجم له، فيحدثك عما وقع له من أحداث، وقد تنتهي به هذه الأحداث الجزئية المتعلقة بصاحبه إلى الحديث عن تاريخ عصره وما كان فيه من عبر ومواقع. ثم يحدثك آخر ذلك كله عن شعر صاحبه والأصوات التي غنيت من هذا الشعر وما لم يغن وما لم يعتبر من الأصوات المائة التي ذكرها في سائر كتابه. ويذيل الترجمة وفاة صاحبه إن كان في الاستطراد ما يناسب ذلك
فأنت ترى أن عنصر الاستطراد هو المنهج الأصيل في كتاب الأغاني وهو عين المنهج الذي استنه شيوخ الأدب العربي من قبل أبي الفرج. فالجاحظ (٢٥٥هـ) وابن قتيبة