أهواءهم)، وجعل أنبياءه قضاة بين خلقه (إنا أنزلنا التوراة فيها هدى ونور يحكم بها النبيون)، وبه اثبت الله اسم الخلافة لداود حين قال له (يا داود، أنا جعلناك خليفة في الأرض، فاحكم بين الناس بالحق، ولا تتبع الهوى).
والقضاء أول ما تعقد عليه أمة خناصرها، إذا عددت أمجادها ومفاخرها. وإذا استدل بفرد على سلائق جيل، كان القاضي العالم العادل اظهر دليل على مكارم شعبه ونبل أمته. وإذا كان بين الشعوب اليوم من يفخر باستقلال قضائه، وعزته ومضائه، ففاخروه يا شبابنا بقضائكم بكن لكم الفخار، وتعقد على جباهكم تيجان (الغار)، ولكن لا تناموا على هذا المجد التليد، بل انهضوا فصلوه بمجد لكم جديد!
يا أيها السامعون! أني لا ألقي خطابيات، ولكن اسرد حقائق: هذا قضاؤنا، فمن عرف قضاء اشد منه استقلالا؟ هل نال قاض في أمة من الحرية مثل ما كان لقضائنا؟ لم يكن القاضي مقيدا بمذهب بعينه لابد له في مخالفته، ولا مربوطا بقانون بذاته لا يملك الخروج من رقبته، وليس الخليفة عليه في حكمه سلطان، ولا لأمير معه في قضائه كلام، تبدلت على المسلمين دول، واختلفت حكومات، وقام قاسطون ومقسطون، وخيرون وشريرون، والقضاء في حصن حصين، لا تبلغه يد عادل ولا ظالم، ولا يمسه خليفة حق ولا سلطان جائر. . . القاضي واجتهاده، مرجعه كتاب الله وسنة نبيه، ورقيبه ضميره ودينه، ووازعه أيمانه ويقينه. وسيأتي الكلام في صفات القاضي، وإن الأصل فيه أن يكون من أهل الاجتهاد لا من المقلدين. ولقد رأيت في تراجم بعض القضاة أنهم كانوا يرجعون إلى الخلفاء يسألونهم ويستفتونهم، وإن من الخلفاء من كان يذيع من (البلاغات) ما ظاهره إلزام القاضي بقول أو مذهب. وتحرير الكلام في هذه المسألة أن من أعمال الخلفاء الاجتهاد والفتوى والقضاة وقيادة الجيوش وسد الثغور، ومن شرائطهم العلم، فإذا رجع القضاة إلى الخلفاء، فإنما يرجعون إليهم لعلمهم وفقههم لا لسلطانهم ومنصبهم، وأكثر ما رأيت من السؤال إنما هو لعمر بن عبد العزيز وأمثاله. ولقد كانوا يقولون:(العلماء عند عمر بن عبد العزيز تلامذة). . . ولم يكن القضاة ملزمين بالعمل بجواب الخليفة أو بلاغه. ولقد رد القاضي المصري بكار بن قتيبة بلاغ الموفق العباسي، لما ثبت عنده أنه مخالف للحكم، ومناهض للدليل واسقط العمل به