ولعمر الحق ما فرط قضاتنا بهذه الأمانة ولا أضاعوها، بل كانوا أمناء عليها، قائمين بحق الله فيها، لا يعرفون في الحق كبيرا ولا صغيراً، يقيمونه على الملوك قبل السوقة، ويأخذون للضعيف الواني من القوى العاتي، لم تكن تنال منهم رغبة ولو جئتهم بكنوز الأرض، ولا تبلغ رهبة ولو لوحت لهم بالموت منشورا، بل كانوا في الحق كالجبال هيبة وثباتا، وفي إنفاذه كالصواعق مضاء وانقضاضاً، وسيأتيكم محمد بن عمران قاضي مكة، الذي ادعي لديه جمال على أمير المؤمنين، العظيم المخيف، أبي جعفر المنصور، فبعث إليه (مذكرة حلب)، فجاء به في خف وطيلسان ما عليه من شارات الإمارة شيء، حتى وقفه بين يديه مع الجمال. وشريك قاضي الكوفة حين ادعت لديه امرأة مجهولة على الأمير الخطير ابن عم الخليفة وثاني رجل في الدولة بعده عيسى بن موسى، فحكم عليه حكما غيابيا، فامتنع الأمير من إنفاذه وتوسل إليه بكاتبه، فحبس القاضي الكاتب لأنه مشى في حاجة لظالم، فاستعان عليه بجماعة من وجوه العراقيين من إخوان القاضي، فساقهم جميعاً إلى الحبس، فغب الأمير وبعث من أخرجهم. عند ذلك - أيها السادة - عصفت نخوة الشرع في رأس القاضي، وأخذته عزة الإيمان فقال:(والله ما طلبنا هذا الأمر (يعني المنصب)، ولكنهم أكرهونا عليه، وضمنوا لنا فيه الإعزاز إذ تقلدناه لهم). ثم ختم قمطره، وجمع سجلاته، واحتمل بأهله، فتوجه نحو بغداد، ووقعت الرجفة في الكوفة حين مشى فيها خبر خروج القاضي، حتى خاف الأمير على سلطانه، فلحق بالقاضي يناشده الله أن يرجع، فقال القاضي:(لا والله حتى يرد أولئك إلى الحبس، فما كنت لأحبس أنا وتطلق أنت)؛ فبعث الأمير من يرجعهم إلى الحبس، والقاضي واقف ينتظر حتى جاءه الخبر بأنهم قد أرجعوا، فقال القاضي لغلامه: خذ بلجام دابة الأمير وسقه أمامي إلى مجلس الحكم، إلى المسجد، أيها السادة، وهناك أجلسه بين يديه مع المرأة، فلما انتهت المحاكمة وحكم لها عليه، نهض إليه فسلم عليه بالأمارة وقال له: هل تأمر بشيء؟ فضحك الأمير وقال: بماذا أمر؟ وأي شيء بقي؟ قال له شريك: أيها الأمير، ذاك حق الشرع، وهذا حق الأدب. فقام الأمير وهو يقول: من عظم أمر الله، أذل الله له عظماء خلقه!
هذا قضاؤنا، فهل سمعتم عن قضاء أنه بلغ في التسوية بين الخصوم مبلغه؟ لقد سووا بينهم في المجلس والخطاب والبشر، واللفتة العارضة، والبسمة البارقة، بله الحكم. وقد بلغ